وبين كل متقابلين مسافة هائلة في الكنه والزمن .. وكان من شأن هذا كله أن ينقل إلى القلب البشري اليقين بتدبير الله ، واليقين بلقائه. ولكن المخاطبين بالسورة يشكون في هذا ولا يستيقنون :
(ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) ..
واللمسة الثالثة تضم اللمستين الأوليين في اطار واحد ؛ وتقرر ألوهية الله في الكون والحياة الإنسانية سواء : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ، يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ، وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) ..
إن الذي خلق السماوات والأرض هو الله في السماوات وفي الأرض. هو المتفرد بالألوهية فيهما على السواء. وكل مقتضيات الألوهية متحققة عليهما ، من خضوع للناموس الذي سنه الله لهما ، وائتمار بأمره وحده. وكذلك ينبغي أن يكون الشأن في حياة الإنسان. فلقد خلقه الله كما خلق السماوات والأرض ؛ وهو في تكوينه الأول من طين هذه الأرض ؛ وما رزقه من خصائص جعلت منه إنسانا رزقه إياه الله ؛ وهو خاضع من ناحية كيانه الجسمي للناموس الذي سنه الله له ـ رضي أم كره ـ يعطى وجوده وخلقه ابتداء بمشيئة الله ، لا بمشيئته هو ولا بمشيئة أبيه وأمه : فهما يلتقيان ولكن لا يملكان أن يعطيا جنينا وجوده! وهو يولد وفق الناموس الذي وضعه الله لمدة الحمل وظروف الولادة! وهو يتنفس هذا الهواء الذي أوجده الله بمقاديره هذه ؛ ويتنفسه بالقدر وبالكيفية التي أرادها الله له. وهو يحس ويتألم ، ويجوع ويعطش ، ويأكل ويشرب .. وبالجملة يعيش .. وفق ناموس الله ، على غير إرادة منه ولا اختيار .. شأنه في هذا شأن السماوات والأرض سواء.
والله ـ سبحانه ـ يعلم سره وجهره. ويعلم ما يكسب في حياته في سره وجهره.
والأليق به أن يتبع ـ إذن ـ ناموس الله في حياته الاختيارية ـ فيما يتخذه من تصورات اعتقادية ، وقيم اعتبارية ، وأوضاع حيوية ـ لتستقيم حياته الفطرية المحكومة بناموس الله ؛ مع حياته الكسبية حين تحكمها شريعة الله. ولكي لا يناقض بعضه بعضا ، ولا يصادم بعضه بعضا ؛ ولا يتمزق مزقا بين ناموسين وشرعين : أحدهما إلهي والآخر بشري وما هما بسواء ..
* * *
إن هذه الموجة العريضة الشاملة في مطلع السورة ، إنما تخاطب القلب البشري والعقل البشري بدليل «الخلق» ودليل «الحياة» ممثلين في الآفاق وفي الأنفس .. ولكنها لا تخاطب بهما الإدراك البشري خطابا جدليا ، لاهوتيا أو فلسفيا! ولكن خطابا موحيا موقظا للفطرة ، حيث يواجهها بحركة الخلق والإحياء ؛ وحركة التدبير والهيمنة ؛ في صورة التقرير لا في صورة الجدل ؛ وبسلطان اليقين المستمد من تقرير الله ؛ ومن شهادة الفطرة الداخلية بصدق هذا التقرير فيما تراه.
ووجود السماوات والأرض ، وتدبير هما وفق هذا النظام الواضح ؛ ونشأة الحياة ـ وحياة الإنسان في قمتها ـ وسيرها في هذا الخط الذي سارت فيه .. كلاهما يواجه الفطرة البشرية بالحق ، ويوقع فيها اليقين بوحدانية الله .. والوحدانية هي القضية التي تستهدف السورة كلها ـ بل القرآن كله ـ تقريرها. وليست هي قضية «وجود» الله. فلقد كانت المشكلة دائما في تاريخ البشرية هي مشكلة عدم معرفة الإله الحق ، بصفاته الحقة ؛ ولم تكن هي مشكلة عدم الإيمان بوجود إله!
ومشركو العرب الذين كانت هذه السورة تواجههم ما كانوا يجحدون الله البتة ؛ بل كانوا يقرون بوجوده سبحانه ، وبأنه الخالق الرازق ، المالك ، المحيي المميت .. إلى كثير من الصفات ـ كما يقرر القرآن ذلك في مواجهتهم ، وفي حكاية أقوالهم ـ ولكن انحرافهم الذي وصمهم بالشرك هو أنهم ما كانوا يعترفون بمقتضى