(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ. وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ، يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ، وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) ..
ثلاث آيات تذرع الوجود الكوني كله في الآية الأولى ، وتذرع الوجود الإنساني كله في الآية الثانية .. ثم تحيط الألوهية بالوجودين كليهما في الآية الثالثة!
أي إعجاز! وأية روعة! وأي شمول! وأية إحاطة!
وأمام هذا الوجود الكوني الشاهد بوحدة الخالق. وأمام هذا الوجود الإنساني الشاهد بتدبيره. وأمام هذه الألوهية الحاكمة في السماوات وفي الأرض ؛ العالمة بالسر والجهر والكسب .. يبدو شرك المشركين ، وامتراء الممترين ، عجبا منكرا لا مكان له في نظام الكون ، ولا مكان له في فطرة النفس ، ولا سند له في القلب والعقل!
وفي هذه اللحظة تبدأ الموجة التالية تعرض موقف المكذبين بآيات الله هذه المبثوثة في الكون والحياة ؛ ومع عرض الموقف المنكر الغريب ، يجيء التهديد ، وتعرض مصارع الغابرين ، ويتجلى السلطان القاهر الذي تدل عليه هذه المصارع ، وهذه القوارع. فيبدو عجيبا منكرا تعنت المنكرين أمام هذا الحق المبين ؛ ويبدو أن المنكرين ليس الذي ينقصهم هو الدليل ولكنه صدق النية ، وتفتح القلب للدليل :
(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ. فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ، أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ، وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً ، وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ ، فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ. وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَقالُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ! وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ. وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ؛ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. قُلْ : سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) ..
ومن هنا تبدأ موجة ثالثة في التعريف بحقيقة الألوهية ، متجلية في ملكية الله سبحانه لما في السماوات وما في الأرض ، ولما سكن بالليل والنهار. ومتجلية في كونه الرازق الذي يطعم ولا يطعم. فهو من ثم الولي الذي لا ولي غيره. الذي يجب أن يسلم العبيد أنفسهم إليه وحده. وهو الذي يعذب العصاة في الآخرة. وهو الذي يملك الضر والخير. وهو على كل شيء قدير. وهو القاهر فوق عباده. وهو الحكيم الخبير ..
وتبلغ الموجة قمتها بعد هذا التمهيد كله ، في الإشهاد والمفاصلة بين الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وبين القوم ، وإنذارهم والتبرؤ من شركهم ، وإعلان التوحيد في مواجهتهم ، في رنة عالية فاصلة جازمة :
(قُلْ : لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلْ : لِلَّهِ. كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ، الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، قُلْ : أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ؟ قُلْ : إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُلْ : إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ، وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ. قُلْ : أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وَأُوحِيَ