وموقف الإشهاد والمفاصلة. وموقف البأس والتدمير على المشركين ..
وهي ذات المشاهد التي حشدها السياق في السورة كلها من قبل ، وهو يتناول قضية العقيدة بجملتها ، قبل أن يتعرض لهذه المناسبة الخاصة التي تتمثل فيها. ولكل هذا دلالته التي لا تخطئ على طبيعة هذا الدين ، ونظرته لقضية الحاكمية والتشريع في الكثير والقليل ..
* * *
ولعلنا قد سبقنا سياق السورة ؛ ونحن نبين منهجها الموضوعي وهي تتناول قضية العقيدة بجملتها ، في مواجهة مناسبة جزئية تتعلق بأمر التشريع والحاكمية. وهي المناسبة التي لا نقول : إنها اقتضت ذلك الحشد المجتمع المتدفق من التقريرات والتأثيرات في سياق السورة كله ، وهذا البيان الرائع الباهر لحقيقة الألوهية في مجالها الواسع الشامل. ولكننا نقول : إنها المناسبة التي ربطت في سياق السورة بهذا كله ؛ فدل هذا الربط على طبيعة هذا الدين ؛ ونظرته لقضية التشريع والحاكمية في الكبير والصغير ، وفي الجليل والحقير من شؤون هذه الحياة الدنيا .. كما أسلفنا ..
فالآن نمضي في التعريف المجمل بالسورة وخصائصها وملامحها ، على النحو الذي ألفناه في هذه الظلال ، قبل الدخول في الاستعراض المفصل للسياق :
* * *
في روايات عن ابن عباس ، وعن أسماء بنت يزيد ، وعن جابر ، وعن أنس بن مالك وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنهم جميعا ـ أن هذه السورة مكية ، وأنها نزلت كلها جملة واحدة.
وليس في هذه الروايات ما يعين تاريخ نزول السورة ، وليس في موضوعها كذلك ما يحدد زمن نزولها من العهد المكي .. وهي حسب الترتيب الراجح لسور القرآن يجيء ترتيبها بعد سورة الحجر ؛ وتكون هي السورة الخامسة والخمسين .. ولكننا ـ كما بينا من قبل في التعريف بسورة البقرة ـ لا نستطيع بمثل هذه المعلومات أن نجزم بشيء عن تاريخ محدد لنزول السور. فالمعول عليه عندهم ـ في الغالب ـ في ترتيب السور على هذا النحو هو تاريخ نزول أوائلها ـ لا جملتها ـ وقد تكون هناك أجزاء من سورة متقدمة نزلت بعد أجزاء من سورة متأخرة. إذ المعول في الترتيب على أوائل السورة .. أما في سورة الأنعام فقد نزلت كلها جملة. ولكننا لا نملك تحديد تاريخ نزولها. غير أننا نرجح أنها كانت بعد السنوات الأولى من الرسالة .. ربما الخامسة أو السادسة .. ولا نعتمد في هذا الترجيح على أكثر من رقم الترتيب ؛ ثم على سعة الموضوعات التي تناولتها ، والتوسع في عرضها على هذا النحو ، الذي يشي بأن الدعوة والجدل مع المشركين ، وطول الإعراض منهم والتكذيب لرسول الله ، أصبح يقتضي التوسع في عرض القضايا العقيدية على هذا النحو ؛ كما يقتضي تسلية رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن طول الصد والإعراض والتكذيب ..
وفي رواية عن ابن عباس وقتادة : أن السورة مكية كلها إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة. قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. قُلْ : مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ ، تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً ، وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ ، قُلِ : اللهُ ، ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) .. وهي الآية : ٩١. نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين. وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ ، وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ، كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ ، وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ، وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) ..