هذه الجاهلية التي تعم وجه الأرض اليوم ، وفي قلبه ، وفي همه ، وفي حركته ، أن «ينشئ» الإسلام في نفسه وفي نفوس الناس ، وفي حياته وفي حياة الناس ، مرة أخرى في مواجهة هذه الجاهلية. بكل تصوراتها ، وكل اهتماماتها وكل تقاليدها ، وكل واقعها العملي ؛ وكل ضغطها كذلك عليه ، وحربها له ، ومناهضتها لعقيدته الربانية ، ومنهجه الرباني ؛ وكل استجاباتها كذلك لهذا المنهج ولهذه العقيدة ؛ بعد الكفاح والجهاد والإصرار ..
هذا هو الجو القرآني الذي يمكن أن يعيش فيه الإنسان ؛ فيتذوق هذا القرآن .. فهو في مثل هذا الجو نزل ، وفي مثل هذا الخضم عمل .. والذين لا يعيشون في مثل هذا الجو معزولون عن القرآن مهما استغرقوا في مدارسته وقراءته والاطلاع على علومه ..
والمحاولة التي نبذلها لإقامة القنطرة بين المخلصين من هؤلاء وبين القرآن ، ليست بالغة شيئا ، إلا بعد أن يجتاز هؤلاء القنطرة ؛ ويصلوا إلى المنطقة الأخرى ؛ ويحاولوا أن يعيشوا في «جو القرآن» حقا بالعمل والحركة. وعندئذ فقط سيتذوقون هذا القرآن ؛ ويتمتعون بهذه النعمة التي ينعم الله بها على من يشاء ..
* * *
هذه السورة تعالج قضية العقيدة الأساسية .. قضية الألوهية والعبودية .. تعالجها بتعريف العباد برب العباد .. من هو؟ ما مصدر هذا الوجود؟ ماذا وراءه من أسرار؟ من هم العباد؟ من ذا الذي جاء بهم إلى هذا الوجود؟ من أنشأهم؟ من يطعمهم؟ من يكفلهم؟ من يدبر أمرهم؟ من يقلب أفئدتهم وأبصارهم؟ من يقلب ليلهم ونهارهم؟ من يبدئهم ثم يعيدهم؟ لأي شيء خلقهم؟ ولأي أجل أجلهم؟ ولأي مصير يسلمهم؟ .. هذه الحياة المنبثقة هنا وهناك .. من بثها في هذا الموات؟ .. هذا الماء الهاطل. هذا البرعم النابغ. هذا الحب المتراكب. هذا النجم الثاقب. هذا الصبح البازغ. هذا الليل السادل. هذا الفلك الدوار .. هذا كله من وراءه؟ وماذا وراءه من أسرار ، ومن أخبار؟ .. هذه الأمم ، وهذه القرون ، التي تذهب وتجيء ، وتهلك وتستخلف .. من ذا يستخلفها؟ ومن ذا يهلكها؟ لما ذا تستخلف؟ ولما ذا يدركها البوار؟ وماذا بعد الاستخلاف والابتلاء والوفاة من مصير وحساب وجزاء؟؟؟
هكذا تطوّف السورة بالقلب البشري في هذه الآماد والآفاق ، وفي هذه الأغوار والأعماق .. ولكنها تمضي في هذا كله على منهج القرآن المكي .. الذي أسلفنا الحديث عنه في الصفحات السابقة ـ وعلى منهج القرآن كله .. إنها لا تهدف إلى تصوير نظرية في العقيدة ولا إلى جدل لاهوتي يشغل الأذهان والأفكار .. إنما تهدف إلى تعريف الناس بربهم الحق ؛ لتصل من هذا التعريف إلى تعبيد الناس لربهم الحق. تعبيد ضمائرهم وأرواحهم ، وتعبيد سعيهم وحركتهم ، وتعبيد تقاليدهم وشعائرهم ، وتعبيد واقعهم كله لهذا السلطان المتفرد .. سلطان الله الذي لا سلطان لغيره في الأرض ولا في السماء ..
ويكاد اتجاه السورة كله يمضي إلى هذا الهدف المحدد .. من أولها إلى آخرها .. فالله هو الخالق. والله هو الرازق. والله هو المالك. والله هو صاحب القدرة والقهر والسلطان. والله هو العليم بالغيوب والأسرار. والله هو الذي يقلب القلوب والأبصار كما يقلب الليل والنهار .. وكذلك يجب أن يكون الله هو الحاكم في حياة العباد ؛ وألا يكون لغيره نهي ولا أمر ، ولا شرع ولا حكم ، ولا تحليل ولا تحريم. فهذا كله من خصائص الألوهية ، ولا يجوز أن يزاوله في حياة الناس أحد من دون الله ، لا يخلق ، ولا يرزق ، ولا يحيي ولا يميت ، ولا يضر ولا ينفع ، ولا يمنح ولا يمنع ، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا في الدنيا ولا في الآخرة ..