وإذا صح هذا في أصل النظرية فهو أصح ـ بطبيعة الحال ـ فيما يختص بتقديم أسس النظام الذي يتمثل فيه التصور الإسلامي ، أو تقديم التشريعات المفصلة لهذا النظام.
إن الجاهلية التي حولنا كما أنها تضغط على أعصاب بعض المخلصين من أصحاب الدعوة الإسلامية فتجعلهم يستعجلون خطوات المنهج الإسلامي ، كذلك هي تتعمد أحيانا أن تحرجهم فتسألهم : أين تفصيلات نظامكم الذي تدعون إليه؟ وماذا أعددتم لتنفيذه من بحوث ومن تفصيلات ومن مشروعات؟ وهي في هذا تتعمد أن تعجلهم عن منهجهم ، وأن تجعلهم يتجاوزون مرحلة بناء العقيدة ؛ وأن يحولوا منهجهم الرباني عن طبيعته ، التي تتبلور فيها النظرية من خلال الحركة ، ويتحدد فيها النظام من خلال الممارسة ، وتسن فيها التشريعات في ثنايا مواجهة الحياة الواقعية بمشكلاتها الحقيقية ..
ومن واجب أصحاب الدعوة الإسلامية ألا يستجيبوا للمناورة! من واجبهم أن يرفضوا إملاء منهج غريب على حركتهم وعلى دينهم! من واجبهم ألا يستخفهم من لا يوقنون!
ومن واجبهم أن يكشفوا مناورة الإحراج وأن يستعلوا عليها ؛ وأن يتحركوا بدينهم وفق منهج هذا الدين في الحركة. فهذا من أسرار قوته ، وهذا هو مصدر قوتهم كذلك.
إن المنهج في الإسلام يساوي الحقيقة ؛ ولا انفصام بينهما .. وكل منهج غريب لا يمكن أن يحقق الإسلام في النهاية. والمناهج الغربية الغريبة يمكن أن تحقق أنظمتها البشرية ؛ ولكنها لا يمكن أن تحقق نظامنا الرباني .. فالتزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة وكالتزام النظام في كل حركة إسلامية. لا في الحركة الإسلامية الأولى كما يظن بعض الناس!
هذه هي كلمتي الأخيرة .. وإنني لأرجو أن أكون بهذا البيان لطبيعة القرآن المكي ، ولطبيعة المنهج الرباني المتمثل فيه ، قد بلغت ؛ وأن يعرف أصحاب الدعوة الإسلامية طبيعة منهجهم ، ويثقوا به ، ويطمئنوا إليه ؛ ويعلموا أن ما عندهم خير ، وأنهم هم الأعلون .. (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) .. صدق الله العظيم ..
ونمضي بعد ذلك لمواجهة السورة.
* * *
هذه السورة ـ وهي أولى السور المكية التي نتعرض لها هنا في سياق هذه الظلال ـ نموذج كامل للقرآن المكي الذي تحدثنا عن طبيعته وخصائصه ومنهجه في الصفحات السابقة ؛ وهي تمثل طبيعة هذا القرآن وخصائصه ومنهجه ، في موضوعها الأساسي ، وفي منهج التناول ، وفي طريقة العرض سواء .. ذلك مع احتفاظها «بشخصيتها» الخاصة ؛ وفق الظاهرة الملحوظة في كل سور القرآن ؛ والتي لا تخطئها الملاحظة البصيرة في أية سورة .. فلكل سورة شخصيتها ، وملامحها ، ومحورها ، وطريقة عرضها لموضوعها الرئيسي ؛ والمؤثرات الموحية المصاحبة للعرض ؛ والصور والظلال والجو الذي يظللها ؛ والعبارات الخاصة التي تتكرر فيها ؛ وتكون أشبه باللوازم المطردة فيها ... حتى وهي تتناول موضوعا واحدا أو موضوعات متقاربة. فليس الموضوع هو الذي يرسم شخصية السورة ؛ ولكنه هذه الملامح والسمات الخاصة بها!
وهذه السورة ـ مع ذلك ـ تعالج موضوعها الأساسي بصورة فريدة .. إنها في كل لمحة منها وفي كل موقف ، وفي كل مشهد ، تمثل «الروعة الباهرة» .. الروعة التي تبده النفس ، وتشده الحس ، وتبهر النّفس أيضا ؛ وهو يلاحق مشاهدها وإيقاعها وموحياتها مبهورا!
نعم! هذه حقيقة! حقيقة أجدها في نفسي وحسي وأنا أتابع سياق السورة ومشاهدها وإيقاعاتها .. وما أظن