بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات (١)!
وجانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم .. إن هذا الدين منهج عملي حركي جاد .. جاء ليحكم الحياة في واقعها ؛ ويواجه هذا الواقع ليقضي فيه بأمره .. يقره أو يعدله أو يغيره من أساسه .. ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلا ، في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية الله وحده.
إنه ليس نظرية تتعامل مع الفروض! إنه منهج يتعامل مع الواقع! فلا بد أولا أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة أن لا إله إلا الله ، وأن الحاكمية ليست إلا لله ؛ ويرفض أن يقر بالحاكمية لأحد من دون الله ؛ ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة ..
وحين يقوم هذا المجتمع فعلا ، تكون له حياة واقعية ، تحتاج إلى تنظيم وإلى تشريع .. وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سن الشرائع .. لقوم مستسلمين أصلا للنظم والشرائع ، رافضين ابتداء لغيرها من النظم والشرائع ..
ولا بد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من السلطان على أنفسهم وعلى مجتمعهم ما يكفل تنفيذ النظام والشرائع في هذا المجتمع ؛ حتى تكون للنظام هيبته ويكون للشريعة جديتها .. فوق ما يكون لحياة هذا المجتمع من الواقعية ما يقتضي الأنظمة والشرائع من فورها ..
والمسلمون في مكة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم. وما كانت لهم حياة واقعية مستقلة هم الذين ينظمونها بشريعة الله .. ومن ثم لم ينزل الله في هذه الفترة تنظيمات وشرائع ؛ وإنما نزل لهم عقيدة ، وخلقا منبثقا من العقيدة بعد استقرارها في الأعماق البعيدة .. فلما صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان تنزلت عليهم الشرائع ؛ وتقرر لهم النظام ؛ الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية ؛ والذي تكفل له الدولة بسلطانها الجدية والنفاذ ..
ولم يشأ الله أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة ، ليختزنوها جاهزة ، حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في المدينة! إن هذه ليست طبيعة هذا الدين! إنه أشد واقعية من هذا وأكثر جدية! إنه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولا .. إنما هو يواجه الواقع بحجمه وشكله وملابساته لصوغه في قالبه الخاص ، وفق حجمه وشكله وملابساته ..
والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ قوالب نظام ، وأن يصوغ تشريعات حياة .. بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة الله وحدها ، ورفض كل شريعة سواها ، مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه .. الذين يريدون من الإسلام ذلك لا يدركون طبيعة هذا الدين ، ولا كيف يعمل في الحياة ؛ كما يريد له الله ..
إنهم يريدون منه أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه أنظمة بشرية ، ومناهج بشرية. ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة .. إنهم يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب فروض ، تواجه مستقبلا غير موجود .. والله يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده .. عقيدة تملأ القلب ، وتفرض سلطانها على الضمير. عقيدة مقتضاها
__________________
(١) يراجع كيف حرم الله الخمر في الجزء الخامس من هذه الظلال ص ٦٦٣ ـ ٦٦٧ وكيف عجزت أمريكا عن ذلك في كتاب : ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين.