وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إليهم ، فقال : «أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له. ولكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
وأخرج الترمذي ـ بإسناده ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلا أتى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي ، فحرمت عليّ اللحم فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) ... الآية» ..
فأما الآية الخاصة بالحلف والأيمان والتي جاءت تالية في السياق :
(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ، وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ، فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ. ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ. وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ..
فالظاهر أنها نزلت لمواجهة هذه الحالة ـ وأمثالها ـ من الحلف على الامتناع عن المباح الذي آلى أولئك النفر على أنفسهم أن يمتنعوا عنه ، فردهم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن الامتناع عنه ، وردهم القرآن الكريم عن مزاولة التحريم والتحليل بأنفسهم ، فهذا ليس لهم إنما هو لله الذي آمنوا به. كما أنها تواجه كل حلف على الامتناع عن خير أو الإقدام على شر. فكل يمين يرى صاحبها أن هناك ما هو أبرّ ، فعليه أن يفعل ما هو أبرّ ، ويكفر عن يمينه بالكفارات المحددة في هذه الآية.
قال ابن عباس : سبب نزولها : القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم. حلفوا على ذلك. فلما نزلت «لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم» قالوا : كيف نصنع بأيماننا «فنزلت هذه الآية».
وقد تضمن الحكم أن الله ـ سبحانه ـ لا يؤاخذ المسلمين بأيمان اللغو ، التي ينطق بها اللسان دون أن يعقد لها القلب بالنية والقصد مع الحض على عدم ابتذال الأيمان بالإكثار من اللغو بها إذ أنه ينبغي أن تكون لليمين بالله حرمتها ووقارها ، فلا تنطق هكذا لغوا ..
فأما اليمين المعقودة ، التي وراءها قصد ونية ، فإن الحنث بها يقتضي كفارة تبينها هذه الآية :
(فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ، أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ. ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ).
وطعام المساكين العشرة من «أوسط» الطعام الذي يقوم به الحالف لأهله .. و «أوسط» تحتمل أن تكون من «أحسن» أو من «متوسط» فكلاهما من معاني اللفظ. وإن كان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد لأن «المتوسط» هو «الأحسن» فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام .. أو «كسوتهم» الأقرب أن تكون كذلك من «أوسط» الكسوة .. أو «تحرير رقبة» لا ينص هنا على أنها مؤمنة .. ومن ثم يرد بشأنها خلاف فقهي ليس هذا مكانه .. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) .. وهي الكفارة التي يعاد إليها في اليمين المعقودة عند عدم استطاعة الكفارات الأخرى .. وكون هذه الأيام الثلاثة متتابعة أو غير متتابعة فيه كذلك خلاف فقهي بسبب عدم النص هنا على تتابعها. والخلافات الفقهية في هذه الفرعيات ليست من منهجنا في هذه الظلال. فمن أرادها فليطلبها في مواضعها في كتب الفقه. إذ أنها كلها تتفق على الأصل الذي يعنينا وهو أن الكفارة رد لاعتبار العقد المنقوض ، وحفظ للأيمان من الاستهانة بها ؛ وهي «عقود» وقد أمر الله ـ سبحانه ـ بالوفاء بالعقود. فإذا عقد الإنسان يمينه وكان هناك ما هو أبرّ فعل الأبر وكفر عن اليمين. وإذا عقدها على غير ما هو