بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ والأمر كما قلنا من قبل في الظلال ، يقتضي «سلطة» تأمر وتنهى (١) ، والأمر والنهي أمر غير الدعوة. فالدعوة بيان ، والأمر والنهي سلطان. وكذلك ينبغي أن يحصل الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر على السلطان الذي يجعل لأمرهم ونهيهم قيمته في المجتمع ؛ فلا يكون مطلق كلام!
وكنموذج من قولهم الإثم في أبشع صوره يحكي القرآن الكريم قول اليهود الغبي اللئيم :
(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ـ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا ، بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ـ) ..
وذلك من سوء تصور يهود لله سبحانه. فقد حكى القرآن الكريم الكثير من سوء تصورهم ذاك. وقد قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء عند ما سئلوا النفقة! وقالوا : يد الله مغلولة ، يعللون بذلك بخلهم ؛ فالله ـ بزعمهم ـ لا يعطي الناس ولا يعطيهم إلا القليل .. فكيف ينفقون؟!
وقد بلغ من غلظ حسهم ، وجلافة قلوبهم ، ألا يعبروا عن المعنى الفاسد الكاذب الذي أرادوه وهو البخل بلفظه المباشر ؛ فاختاروا لفظا أشد وقاحة وتهجما وكفرا فقالوا : يد الله مغلولة!
ويجيء الرد عليهم بإحقاق هذه الصفة عليهم ، ولعنهم وطردهم من رحمة الله جزاء على قولهم :
(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا).
وكذلك كانوا ، فهم أبخل خلق الله بمال!
ثم يصحح هذا التصور الفاسد السقيم ؛ ويصف الله سبحانه بوصفه الكريم. وهو يفيض على عباده من فضله بلا حساب :
(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) ..
وعطاياه التي لا تكف ولا تنفد لكل مخلوق ظاهرة للعيان .. شاهدة باليد المبسوطة ، والفضل الغامر ، والعطاء الجزيل ، ناطقة بكل لسان. ولكن يهود لا تراها ؛ لأنها مشغولة عنها باللم والضم ، وبالكنود وبالجحود ، وبالبذاءة حتى في حق الله!
ويحدث الله رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عما سيبدو من القوم ، وعما سيحل بهم ، بسبب حقدهم وغيظهم من اصطفاء الله له بالرسالة ؛ وبسبب ما تكشفه هذه الرسالة من أمرهم في القديم والحديث :
(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) ..
فبسبب من الحقد والحسد ، وبسبب من افتضاح أمرهم فيما أنزل الله إلى رسوله ، سيزيد الكثيرون منهم طغيانا وكفرا. لأنهم وقد أبوا الإيمان ، لا بد أن يشتطوا في الجانب المقابل ؛ ولا بد أن يزيدوا تبجحا ونكرا ، وطغيانا وكفرا. فيكون الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ رحمة للمؤمنين ، ووبالا عن المنكرين.
ثم يحدثه عما قدر الله لهم من التعادي والتباغض فيما بينهم ؛ ومن إبطال كيدهم وهو في أشد سعيره تلهبا ؛ ومن عودتهم بالخيبة فيما يشنونه من حرب على الجماعة المسلمة :
(وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) ..
وما تزال طوائف اليهود متعادية. وإن بدا في هذه الفترة أن اليهودية العالمية تتساند ؛ وتوقد نار الحرب على
__________________
(١) الجزء الرابع من الظلال : ص ٤٤٣ ـ ٤٤٤.