الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها على قلب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ للجماعة المسلمة في ذلك الحين. ولم نعرف من السيرة أن هذا كان يقع من النصارى .. ولكن الله ـ سبحانه ـ كان يضع للجماعة المسلمة قاعدة تصورها ومنهجها وحياتها الدائمة. وكان الله ـ سبحانه ـ يعلم ما سيكون على مدار الزمان مع أجيال المسلمين. وها نحن أولاء رأينا ونرى أن أعداء هذا الدين وأعداء الجماعة المسلمة على مدار التاريخ أمس واليوم من الذين قالوا : إنهم نصارى كانوا أكثر عددا من اليهود ومن الكفار مجتمعين! فهؤلاء ـ كهؤلاء ـ قد ناصبوا الإسلام العداء ، وترصدوه القرون تلو القرون ، وحاربوه حربا لا هوادة فيها منذ أن اصطدم الإسلام بالدولة الرومانية على عهد أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ حتى كانت الحروب الصليبية ؛ ثم كانت «المسألة الشرقية» التي تكتلت فيها الدول الصليبية في أرجاء الأرض للإجهاز على الخلافة ؛ ثم كان الاستعمار الذي يخفي الصليبية بين أضلاعه فتبدو في فلتات لسانه ؛ ثم كان التبشير الذي مهد للاستعمار وسانده ، ثم كانت وما تزال تلك الحرب المشبوبة على كل طلائع البعث الإسلامي في أي مكان في الأرض .. وكلها حملات يشترك فيها اليهود والنصارى والكفار والوثنيون ..
وهذا القرآن جاء ليكون كتاب الأمة المسلمة في حياتها إلى يوم القيامة. الكتاب الذي يبني تصورها الاعتقادي ، كما يبني نظامها الاجتماعي ، كما يبني خطتها الحركية .. سواء .. وها هو ذا يعلمها ألا يكون ولاؤها إلا لله ولرسوله وللمؤمنين ؛ وينهاها أن يكون ولاؤها لليهود والنصارى والكافرين. ويجزم ذلك الجزم الحاسم في هذه القضية ، ويعرضها هذا العرض المنوع الأساليب.
إن هذا الدين يأمر أهله بالسماحة ، وبحسن معاملة أهل الكتاب ؛ والذين قالوا : إنهم نصارى منهم خاصة .. ولكنه ينهاهم عن الولاء لهؤلاء جميعا .. لأن السماحة وحسن المعاملة مسألة خلق وسلوك. أما الولاء فمسألة عقيدة ومسألة تنظيم. إن الولاء هو النصرة. هو التناصر بين فريق وفريق ؛ ولا تناصر بين المسلمين وأهل الكتاب ـ كما هو الشأن في الكفار ـ لأن التناصر في حياة المسلم هو ـ كما أسلفنا ـ تناصر في الدين ؛ وفي الجهاد لإقامة منهجه ونظامه في حياة الناس ؛ ففيم يكون التناصر في هذا بين المسلم وغير المسلم. وكيف يكون؟! إنها قضية جازمة حاسمة لا تقبل التميع ، ولا يقبل الله فيها إلا الجد الصارم ؛ الجد الذي يليق بالمسلم في شأن الدين ..
* * *
وحين تتم النداءات الثلاثة للذين آمنوا ، يتوجه الخطاب إلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليواجه أهل الكتاب ، فيسألهم : ما ذا ينقمون من الجماعة المسلمة؟ وهل ينقمون منها إلا الإيمان بالله ، وما أنزل إلى أهل الكتاب ؛ وما أنزله الله للمسلمين بعد أهل الكتاب ..؟ هل ينقمون إلا أن المسلمين يؤمنون ، وأنهم هم ـ أهل الكتاب ـ أكثرهم فاسقون؟ وهي مواجهة مخجلة. ولكنها كذلك كاشفة وحاسمة ومحددة لأصل العداوة ومفرق الطريق :
(قُلْ : يا أَهْلَ الْكِتابِ ، هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا ، وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ، وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ؟ قُلْ : هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ؟ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ ، وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ .. أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً ، وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) ..
إن هذا السؤال الذي وجه الله رسوله إلى توجيهه لأهل الكتاب ، هو من ناحية سؤال تقريري لإثبات ما هو واقع بالفعل منهم ؛ وكشف حقيقة البواعث التي تدفع بهم إلى موقفهم من الجماعة المسلمة ودينها وصلاتها.