بصدد إقامة تصور دائم وعلاقة دائمة وأوضاع دائمة بين الجماعة المسلمة وسائر الجماعات الأخرى ، سواء من أهل الكتاب أو من المشركين (كما سيجيء في سياق هذا الدرس) .. ومع اختلاف مواقف اليهود من المسلمين عن مواقف النصارى في جملتها في العهد النبوي ، ومع إشارة القرآن الكريم في موضع آخر من السورة إلى هذا الاختلاف في قوله تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا نَصارى) .. إلخ» .. مع هذا الاختلاف الذي كان يومذاك ، فإن النص هنا يسوي بين اليهود والنصارى ـ كما يسوي النص القادم بينهم جميعا وبين الكفار .. فيما يختص بقضية المحالفة والولاء. ذلك أن هذه القضية ترتكز على قاعدة أخرى ثابتة. هي : أن ليس للمسلم ولاء ولا حلف إلا مع المسلم ؛ وليس للمسلم ولاء إلا لله ولرسوله وللجماعة المسلمة .. ويستوي بعد ذلك كل الفرق في هذا الأمر .. مهما اختلفت مواقفهم من المسلمين في بعض الظروف ..
على أن الله ـ سبحانه ـ وهو يضع للجماعة المسلمة هذه القاعدة العامة الحازمة الصارمة ، كان علمه يتناول الزمان كله ، لا تلك الفترة الخاصة من حياة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وملابساتها الموقوتة .. وقد أظهر التاريخ الواقع فيما بعد أن عداء النصارى لهذا الدين وللجماعة المسلمة في معظم بقاع الأرض لم يكن أقل من عداء اليهود .. وإذا نحن استثنينا موقف نصارى العرب ونصارى مصر في حسن استقبال الإسلام ، فإننا نجد الرقعة النصرانية في الغرب ، قد حملت للإسلام في تاريخها كله منذ أن احتكت به من العداوة والضغن ، وشنت عليه من الحرب والكيد ، ما لا يفترق عن حرب اليهود وكيدهم في أي زمان! حتى الحبشة التي أحسن عاهلها استقبال المهاجرين المسلمين واستقبال الإسلام ، عادت فإذا هي أشد حربا على الإسلام والمسلمين من كل أحد ؛ لا يجاريها في هذا إلا اليهود ..
وكان الله ـ سبحانه ـ يعلم الأمر كله. فوضع للمسلم هذه القاعدة العامة. بغض النظر عن واقع الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها وملابساتها الموقوتة! وبغض النظر عما يقع مثلها في بعض الأحيان هنا وهناك إلى آخر الزمان.
وما يزال الإسلام والذين يتصفون به ـ ولو أنهم ليسوا من الإسلام في شيء ـ يلقون من عنت الحرب المشبوبة عليهم وعلى عقيدتهم من اليهود والنصارى في كل مكان على سطح الأرض ، ما يصدق قول الله تعالى : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) .. وما يحتم أن يتدرع المسلمون الواعون بنصيحة ربهم لهم. بل بأمره الجازم ، ونهيه القاطع ؛ وقضائه الحاسم في المفاصلة الكاملة بين أولياء الله ورسوله ، وكل معسكر آخر لا يرفع راية الله ورسوله ..
إن الإسلام يكلف المسلم أن يقيم علاقاته بالناس جميعا على أساس العقيدة. فالولاء والعداء لا يكونان في تصور المسلم وفي حركته على السواء إلا في العقيدة .. ومن ثم لا يمكن أن يقوم الولاء ـ وهو التناصر ـ بين المسلم وغير المسلم ؛ إذ أنهما لا يمكن أن يتناصرا في مجال العقيدة .. ولا حتى أمام الإلحاد مثلا ـ كما يتصور بعض السذج منا وبعض من لا يقرأون القرآن! ـ وكيف يتناصران وليس بينهما أساس مشترك يتناصران عليه؟ إن بعض من لا يقرأون القرآن ، ولا يعرفون حقيقة الإسلام ؛ وبعض المخدوعين أيضا .. يتصورون أن الدين كله دين! كما أن الإلحاد كله إلحاد! وأنه يمكن إذن أن يقف «التدين» بجملته في وجه الإلحاد. لأن الإلحاد ينكر الدين كله ، ويحارب التدين على الإطلاق ..
ولكن الأمر ليس كذلك في التصور الإسلامي ؛ ولا في حس المسلم الذي يتذوق الإسلام. ولا يتذوق