الضخمة التي تستهدف ـ أول ما تستهدف ـ إقامة نظام واقعي في الأرض فريد ؛ يختلف عن كل الأنظمة الأخرى ؛ ويعتمد على تصور متفرد كذلك من كل التصورات الأخرى ..
إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم ، الذي لا أرجحة فيه ولا تردد ، بأن دينه هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس ـ بعد رسالة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وبأن منهجه الذي كلفه الله أن يقيم الحياة عليه ، منهج متفرد ؛ لا نظير له بين سائر المناهج ؛ ولا يمكن الاستغناء عنه بمنهج آخر ؛ ولا يمكن أن يقوم مقامه منهج آخر ؛ ولا تصلح الحياة البشرية ولا تستقيم إلا أن تقوم على هذا المنهج وحده دون سواه ؛ ولا يعفيه الله ولا يغفر له ولا يقبله إلا إذا هو بذل جهد طاقته في إقامة هذا المنهج بكل جوانبه : الاعتقادية والاجتماعية ؛ لم يأل في ذلك جهدا ، ولم يقبل من منهجه بديلا ـ ولا في جزء منه صغير ـ ولم يخلط بينه وبين أي منهج آخر في تصور اعتقادي ، ولا في نظام اجتماعي ، ولا في أحكام تشريعية ، إلا ما استبقاه الله في هذا المنهج من شرائع من قبلنا من أهل الكتاب ...
إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم بهذا كله هو ـ وحده ـ الذي يدفعه للاضطلاع بعبء النهوض بتحقيق منهج الله الذي رضيه للناس ؛ في وجه العقبات الشاقة ، والتكاليف المضنية ، والمقاومة العنيدة ، والكيد الناصب ، والألم الذي يكاد يجاوز الطاقة في كثير من الأحيان .. وإلا فما العناء في أمر يغني عنه غيره ـ مما هو قائم في الأرض من جاهلية .. سواء كانت هذه الجاهلية ممثلة في وثنية الشرك ، أو في انحراف أهل الكتاب ، أو في الإلحاد السافر .. بل ما العناء في إقامة المنهج الإسلامي ، إذا كانت الفوارق بينه وبين مناهج أهل الكتاب أو غيرهم قليلة ؛ يمكن الالتقاء عليها بالمصالحة والمهادنة؟
إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة ، باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية ، يخطئون فهم معنى الأديان كما يخطئون فهم معنى التسامح. فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله. والتسامح يكون في المعاملات الشخصية ، لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي .. إنهم يحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم بأن الله لا يقبل دينا إلا الإسلام ، وبأن عليه أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام ولا يقبل دونه بديلا ؛ ولا يقبل فيه تعديلا ـ ولو طفيفا ـ هذا اليقين الذي ينشئه القرآن الكريم وهو يقرر : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) .. (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) .. (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) .. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ .. بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) .. وفي القرآن كلمة الفصل .. ولا على المسلم من تميع المتميعين وتمييعهم لهذا اليقين!
ويصور السياق القرآني تلك الحالة التي كانت واقعة ؛ والتي ينزل القرآن من أجلها بهذا التحذير :
(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ ، يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) ..
روى ابن جرير ، قال : حدثنا أبو كريب ، حدثنا إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن عطية بن سعد. قال : جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : يا رسول الله. إن لي موالي من يهود كثير عددهم ؛ وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي (رأس النفاق) : إني رجل أخاف الدوائر. لا أبرأ من ولاية مواليّ. فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لعبد الله بن أبي : «يا أبا الحباب. ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة ابن الصامت فهو لك دونه»! قال : قد قبلت! فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) ...