والإسلام حين يجعل الشريعة لله وحده ، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ويعلن تحرير الإنسان. بل يعلن «ميلاد الإنسان» .. فالإنسان لا يولد ، ولا يوجد ، إلا حيث تتحرر رقبته من حكم إنسان مثله ؛ وإلا حين يتساوى في هذا الشأن مع الناس جميعا أمام رب الناس ..
إن هذه القضية التي تعالجها نصوص هذا الدرس هي أخطر وأكبر قضايا العقيدة .. إنها قضية الألوهية والعبودية. قضية العدل والصلاح. قضية الحرية والمساواة. قضية تحرر الإنسان ـ بل ميلاد الإنسان ـ وهي من أجل هذا كله كانت قضية الكفر أو الإيمان ، وقضية الجاهلية أو الإسلام .. (١)
والجاهلية ليست فترة تاريخية ؛ إنما هي حالة توجد كلما وجدت مقوّماتها في وضع أو نظام .. وهي في صميمها الرجوع بالحكم والتشريع إلى أهواء البشر ، لا إلى منهج الله وشريعته للحياة. ويستوي أن تكون هذه الأهواء أهواء فرد ، أو أهواء طبقة ، أو أهواء أمة ، أو أهواء جيل كامل من الناس .. فكلها .. ما دامت لا ترجع إلى شريعة الله .. أهواء ..
يشرع فرد لجماعة فإذا هي جاهلية. لأن هواه هو القانون .. أو رأيه هو القانون .. لا فرق إلا في العبارات! وتشرع طبقة لسائر الطبقات فإذا هي جاهلية. لأن مصالح تلك الطبقة هي القانون ـ أو رأي الأغلبية البرلمانية هو القانون ـ فلا فرق إلا في العبارات!
ويشرع ممثلو جميع الطبقات وجميع القطاعات في الأمة لأنفسهم فإذا هي جاهلية .. لأن أهواء الناس الذين لا يتجردون أبدا من الأهواء ، ولأن جهل الناس الذين لا يتجردون أبدا من الجهل ، هو القانون ـ أو لأن رأي الشعب هو القانون ـ فلا فرق إلا في العبارات! وتشرع مجموعة من الأمم للبشرية فإذا هي جاهلية. لأن أهدافها القومية هي القانون ـ أو رأي المجامع الدولية هو القانون ـ فلا فرق إلا في العبارات!
ويشرع خالق الأفراد ، وخالق الجماعات ، وخالق الأمم والأجيال ، للجميع ، فإذا هي شريعة الله التي لا محاباة فيها لأحد على حساب أحد. لا لفرد ولا لجماعة ولا لدولة ، ولا لجيل من الأجيال. لأن الله رب الجميع والكل لديه سواء. ولأن الله يعلم حقيقة الجميع ومصلحة الجميع ، فلا يفوته ـ سبحانه ـ أن يرعى مصالحهم وحاجاتهم بدون تفريط ولا إفراط.
ويشرع غير الله للناس .. فإذا هم عبيد من يشرع لهم. كائنا من كان. فردا أو طبقة أو أمة أو مجموعة من الأمم ..
ويشرع الله للناس .. فإذا هم كلهم أحرار متساوون ، لا يحنون جباههم إلا لله ، ولا يعبدون إلا الله.
ومن هنا خطورة هذه القضية في حياة بني الإنسان ، وفي نظام الكون كله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) .. فالحكم بغير ما أنزل الله معناه الشر والفساد والخروج في النهاية عن نطاق الإيمان .. بنص القرآن ..
* * *
(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ، مِنَ الَّذِينَ قالُوا : آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ، وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا .. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ، سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ ،
__________________
(١) يراجع بتوسع كتاب : «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» وكتاب : «هذا الدين» وكتاب : «المستقبل لهذا الدين». «دار الشروق»