نفس أخرى ـ هو استحياء للنفوس جميعا ، لأنه صيانة لحق الحياة الذي تشترك فيه النفوس جميعا.
وبالرجوع إلى البيان الذي قدمنا به لهذه الأحكام ، يتبين أن هذا التقرير ينطبق ـ فقط ـ على أهل دار الإسلام ـ من مسلمين وذميين ومستأمنين ـ فأما دم أهل دار الحرب فهو مباح ـ ما لم تقم بينهم وبين أهل دار الإسلام معاهدة ـ وكذلك مالهم. فيحسن أن نكون دائما على ذكر من هذه القاعدة التشريعية ؛ وأن نتذكر كذلك أن دار الإسلام هي الأرض التي تقام فيها شريعة الإسلام ، ويحكم فيها بهذه الشريعة ، وأن دار الحرب هي الأرض التي لا تقام فيها شريعة الله ، ولا يحكم فيها بهذه الشريعة ..
ولقد كتب الله ذلك المبدأ على بني إسرائيل ؛ لأنهم كانوا ـ في ذلك الحين ـ هم أهل الكتاب ؛ الذين يمثلون «دار الإسلام» ما أقاموا بينهم شريعة التوراة بلا تحريف ولا التواء .. ولكن بني إسرائيل تجاوزوا حدود شريعتهم ـ بعد ما جاءتهم الرسل بالبينات الواضحة ـ وكانوا على عهد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وما يزالون يكثر فيهم المسرفون المتجاوزون لحدود شريعتهم. والقرآن يسجل عليهم هذا الإسراف والتجاوز والاعتداء ؛ بغير عذر ؛ ويسجل عليهم كذلك انقطاع حجتهم على الله وسقوطها بمجيء الرسل إليهم ، وببيان شريعتهم لهم :
(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ؛ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) ..
وهل من إسراف أشد من تجاوز حدود الله ؛ والتعدي على شريعته ، بالتغيير أو بالإهمال؟
* * *
وفي الآية السابقة قرن الله قتل النفس بالفساد في الأرض ؛ وجعل كلا منهما مبررا للقتل ، واستثناء من صيانة حق الحياة ؛ وتفظيع جريمة إزهاق الروح .. ذلك أن أمن الجماعة المسلمة في دار الإسلام ، وصيانة النظام العام الذي تستمتع في ظله بالأمان ، وتزاول نشاطها الخير في طمأنينة .. ذلك كله ضروري كأمن الأفراد .. بل أشد ضرورة ؛ لأن أمن الأفراد لا يتحقق إلا به ؛ فضلا على صيانة هذا النموذج الفاضل من المجتمعات ، وإحاطته بكل ضمانات الاستقرار ؛ كيما يزاول الأفراد فيه نشاطهم الخير ، وكيما تترقى الحياة الإنسانية في ظله وتثمر ، وكيما تتفتح في جوه براعم الخير والفضيلة والإنتاج والنماء .. وبخاصة أن هذا المجتمع يوفر للناس جميعا ضمانات الحياة كلها ، وينشر من حولهم جوا تنمو فيه بذور الخير وتذوي بذور الشر ، ويعمل على الوقاية قبل أن يعمل على العلاج ، ثم يعالج ما لم تتناوله وسائل الوقاية. ولا يدع دافعا ولا عذرا للنفس السوية أن تميل إلى الشر وإلى الاعتداء .. فالذي يهدد أمنه ـ بعد ذلك كله ـ هو عنصر خبيث يجب استئصاله ؛ ما لم يثب إلى الرشد والصواب ..
فالآن يقرر عقوبة هذا العنصر الخبيث ، وهو المعروف في الشريعة الإسلامية بحد الحرابة :
(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ، أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا ، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ .. ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ..
وحدود هذه الجريمة التي ورد فيها هذا النص ، هي الخروج على الإمام المسلم الذي يحكم بشريعة الله ، والتجمع في شكل عصابة ، خارجة على سلطان هذا الإمام ، تروع أهل دار الإسلام ؛ وتعتدي على أرواحهم وأموالهم وحرماتهم. ويشترط بعض الفقهاء أن يكون ذلك خارج المصر بعيدا عن مدى سلطان الإمام. ويرى بعضهم أن مجرد تجمع مثل هذه العصابة ، وأخذها في الاعتداء على أهل دار الإسلام بالقوة ، يجعل النص منطبقا