والانحراف والنكول عن العهد والميثاق. ويواجه اليهود بهذه المواقف على مشهد من المسلمين :
(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ؛ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ؛ وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ ؛ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ؛ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَآتُوا الزَّكاةَ .. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ. وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ. ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ .. ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ، وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ، وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ. أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ ، وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ..
ولقد سبقت الإشارة إلى الميثاق في معرض تذكير الله لبني إسرائيل بإخلاف موقفهم معه في الدرس الماضي. فهنا شيء من التفصيل لبعض نصوص هذا الميثاق.
ومن الآية الأولى ندرك أن ميثاق الله مع بني إسرائيل ، ذلك الميثاق الذي أخذه عليهم في ظل الجبل ، والذي أمروا أن يأخذوه بقوة وأن يذكروا ما فيه .. أن ذلك الميثاق قد تضمن القواعد الثابتة لدين الله. هذه القواعد التي جاء بها الإسلام أيضا ، فتنكروا لها وأنكروها.
لقد تضمن ميثاق الله معهم : ألا يعبدوا إلا الله .. القاعدة الأولى للتوحيد المطلق. وتضمن الإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين. وتضمن خطاب الناس بالحسنى ، وفي أولها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. كذلك تضمن فريضة الصلاة وفريضة الزكاة. وهذه في مجموعها هي قواعد الإسلام وتكاليفه ..
ومن ثم تتقرر حقيقتان : الأولى هي وحدة دين الله ؛ وتصديق هذا الدين الأخير لما قبله في أصوله. والثانية هي مقدار التعنت في موقف اليهود من هذا الدين ، وهو يدعوهم لمثل ما عاهدوا الله عليه ، وأعطوا عليه الميثاق.
وهنا ـ في هذا الموقف المخجل ـ يتحول السياق من الحكاية إلى الخطاب ، فيوجه القول إلى بني إسرائيل. وكان قد ترك خطابهم والتفت إلى خطاب المؤمنين. ولكن توجيه الخطاب إليهم هنا أخزى وأنكى :
(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) ..
وهكذا تتكشف بعض أسرار الالتفات في سياق القصص وغيره في هذا الكتاب العجيب!
٨٤ ـ ويستمر السياق يوجه الخطاب إلى بني إسرائيل ، وهو يعرض عليهم متناقضات موقفهم من ميثاقهم مع الله ..
(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ : لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ ، وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ. ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) ..
فماذا كان بعد الإقرار وهم شاهدون حاضرون؟
(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ، وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ ، تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ. وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ. أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟) ..
ولقد كان هذا الذي يواجههم به واقعا قريب العهد قبيل غلبة الإسلام على الأوس والخزرج. كان الأوس والخزرج مشركين ، وكان الحيّان أشد ما يكون حيّان من العرب عداء. وكان اليهود في المدينة ثلاثة أحياء ترتبط بعهود مع هذا الحي وذاك من المشركين .. كان بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج ، وكان بنو قريظة حلفاء الأوس. فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه ؛ فيقتل اليهودي أعداءه ،