أتراهم شكروا واهتدوا .. إن التعقيب الأخير في الآية يوحي بأنهم ظلموا وجحدوا. وإن كانت عاقبة ذلك عليهم ، فما ظلموا إلّا أنفسهم!
(وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ..
* * *
٥٨ ـ ويمضي السياق في مواجهتهم بما كان منهم من انحراف ومعصية وجحود :
(وَإِذْ قُلْنَا : ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ ، فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً ، وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً ، وَقُولُوا : حِطَّةٌ. نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ، فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ ، بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) ..
وتذكر بعض الروايات أن القرية المقصودة هنا هي بيت المقدس ، التي أمر الله بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر أن يدخلوها ، ويخرجوا منها العمالقة الذين كانوا يسكنونها ، والتي نكص بنو إسرائيل عنها وقالوا : (يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ ، وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) .. والتي قالوا بشأنها لنبيهم موسى ـ عليهالسلام ـ : (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ!) .. ومن ثم كتب عليهم ربهم التيه أربعين سنة ، حتى نشأ جيل جديد بقيادة يوشع بن نون ، فتح المدينة ودخلها .. ولكنهم بدلا من أن يدخلوها سجدا كما أمرهم الله ، علامة على التواضع والخشوع ، ويقولوا : حطة .. أي حط عنا ذنوبنا واغفر لنا .. دخلوها على غير الهيئة التي أمروا بها ، وقالوا قولا آخر غير الذي أمروا به ..
والسياق يواجههم بهذا الحادث في تاريخهم ؛ وقد كان مما وقع بعد الفترة التي يدور عنها الحديث هنا ـ وهي عهد موسى ـ ذلك أنه يعتبر تاريخهم كله وحدة ، قديمه كحديثه ، ووسطه كطرفيه .. كله مخالفة وتمرد وعصيان وانحراف!
وأيّا كان هذا الحادث ، فقد كان القرآن يخاطبهم بأمر يعرفونه ، ويذكرهم بحادث يعلمونه .. فلقد نصرهم الله فدخلوا القرية المعينة ؛ وأمرهم أن يدخلوها في هيئة خشوع وخضوع ، وأن يدعوا الله ليغفر لهم ويحط عنهم ؛ ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم ، وأن يزيد المحسنين من فضله ونعمته. ٥٩ ـ فخالفوا عن هذا كله كعادة يهود : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) ..
ويخص الذين ظلموا بالذكر. إما لأنهم كانوا فريقا منهم هو الذي بدل وظلم. وإما لتقرير وصف الظلم لهم جميعا ، إذا كان قد وقع منهم جميعا.
(فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) ..
والرجز : العذاب. والفسوق : المخالفة والخروج .. وكانت هذه واحدة من أفاعيل بني إسرائيل!
* * *
٦٠ ـ وكما يسر الله لبني إسرائيل الطعام في الصحراء والظل في الهاجرة ، كذلك أفاض عليهم الري بخارقة من الخوارق الكثيرة التي أجراها الله على يدي نبيه موسى ـ عليهالسلام ـ والقرآن يذكرهم بنعمة الله عليهم في هذا المقام ، وكيف كان مسلكهم بعد الإفضال والإنعام :
(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ ، فَقُلْنَا : اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً. قَدْ عَلِمَ