الكلام عن رعاية اليتامى التي بدأ فيها :
(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً. فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً ، فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) ..
وهذه الآية تنشئ للمرأة حقا صريحا ، وحقا شخصيا ، في صداقها. وتنبئ بما كان واقعا في المجتمع الجاهلي من هضم هذا الحق في صور شتى. واحدة منها كانت في قبض الولي لهذا الصداق وأخذه لنفسه ؛ وكأنما هي صفقة بيع هو صاحبها! وواحدة منها كانت في زواج الشغار. وهو أن يزوج الولي المرأة التي في ولايته ، في مقابل أن يزوجه من يأخذها امرأة هي في ولاية هذا الآخر. واحدة بواحدة. صفقة بين الوليين لا حظ فيها للمرأتين. كما تبدل بهيمة ببهيمة! فحرم الإسلام هذا الزواج كلية ؛ وجعل الزواج التقاء نفسين عن رغبة واختيار ، والصداق حقا للمرأة تأخذه لنفسها ولا يأخذه الولي! وحتم تسمية هذا الصداق وتحديده ، لتقبضه المرأة فريضة لها ، وواجبا لا تخلف فيه. وأوجب أن يؤديه الزوج «نحلة» ـ أي هبة خالصة لصاحبتها ـ وأن يؤديه عن طيب نفس ، وارتياح خاطر. كما يؤدي الهبة والمنحة. فإذا طابت نفس الزوجة بعد ذلك لزوجها عن شيء من صداقها ـ كله أو بعضه ـ فهي صاحبة الشأن في هذا ؛ تفعله عن طيب نفس ، وراحة خاطر ؛ والزوج في حل من أخذ ما طابت نفس الزوجة عنه ، وأكله حلالا طيبا هنيئا مريئا. فالعلاقات بين الزوجين ينبغي أن تقوم على الرضى الكامل ، والاختيار المطلق ، والسماحة النابعة من القلب ، والود الذي لا يبقى معه حرج من هنا أو من هناك.
وبهذا الإجراء استبعد الإسلام ذلك الراسب من رواسب الجاهلية في شأن المرأة وصداقها ، وحقها في نفسها وفي مالها ، وكرامتها ومنزلتها. وفي الوقت ذاته لم يجفف ما بين المرأة ورجلها من صلات ، ولم يقمها على مجرد الصرامة في القانون ؛ بل ترك للسماحة والتراضي والمودة أن تأخذ مجراها في هذه الحياة المشتركة ، وأن تبلل بنداوتها جو هذه الحياة.
* * *
٥ ـ فإذا انتهى من هذا الاستطراد ـ الذي دعا إليه الحديث عن الزواج من اليتيمات ومن غيرهن من النساء ـ عاد إلى أموال اليتامى ؛ يفصل في أحكام ردها إليهم ، بعد أن قرر في الآية الثانية من السورة مبدأ الرد على وجه الإجمال.
إن هذا المال ، ولو أنه مال اليتامى ، إلا أنه ـ قبل هذا ـ مال الجماعة ، أعطاها الله إياه لتقوم به ؛ وهي متكافلة في الانتفاع بهذا المال على أحسن الوجوه. فالجماعة هي المالكة ابتداء للمال العام ، واليتامى أو مورثوهم إنما يملكون هذا المال لاستثماره ـ بإذن من الجماعة ـ ويظلون ينتفعون به وينفعون الجماعة معهم ، ما داموا قادرين على تكثيره وتثميره ؛ راشدين في تصريفه وتدبيره ـ والملكية الفردية بحقوقها وقيودها قائمة في هذا الإطار (١) ـ أما السفهاء من اليتامى ذوي المال ، الذين لا يحسنون تدبير المال وتثميره ، فلا يسلم لهم ، ولا يحق لهم التصرف فيه والقيام عليه ـ وإن بقيت لهم ملكيتهم الفردية فيه لا تنزع منهم ـ إنما يعود التصرف في مال الجماعة إلى من يحسن التصرف فيه من الجماعة. مع مراعاة درجة القرابة لليتيم ، تحقيقا للتكافل العائلي ، الذي هو قاعدة التكافل العام بين الأسرة الكبرى! وللسفيه حق الرزق والكسوة في ماله مع حسن معاملته :
(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً ، وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ ، وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) ..
__________________
(١) يراجع بتوسع فصل : «سياسة المال» في كتاب : «العدالة الاجتماعية في الإسلام». «دار الشروق».