بها من وشيجة الربوبية ـ وهي أصل وأول الوشائج ـ ثم يثني بوشيجة الرحم ، فتقوم الأسرة الأولى من ذكر وأنثى ـ هما من نفس واحدة وطبيعة واحدة وفطرة واحدة ـ ومن هذه الأسرة الأولى بيت رجالا كثيرا ونساء ، كلهم يرجعون ابتداء إلى وشيجة الربوبية ، ثم يرجعون بعدها إلى وشيجة الأسرة. التي يقوم عليها نظام المجتمع الإنساني. بعد قيامه على أساس العقيدة.
ومن ثم هذه الرعاية للأسرة في النظام الإسلامي ، وهذه العناية بتوثيق عراها ، وتثبيت بنيانها ، وحمايتها من جميع المؤثرات التي توهن هذا البناء ـ وفي أول هذه المؤثرات مجانبة الفطرة ، وتجاهل استعدادات الرجل واستعدادات المرأة وتناسق هذه الاستعدادات مع بعضها البعض ، وتكاملها لإقامة الأسرة من ذكر وأنثى.
وفي هذه السورة وفي غيرها من السور حشد من مظاهر تلك العناية بالأسرة في النظام الإسلامي .. وما كان يمكن أن يقوم للأسرة بناء قوي ، والمرأة تلقى تلك المعاملة الجائرة ، وتلك النظرة الهابطة التي تلقاها في الجاهلية ـ كل جاهلية ـ ومن ثم كانت عناية الإسلام بدفع تلك المعاملة الجائرة ورفع هذه النظرة الهابطة (١).
٥ ـ وأخيرا فإن نظرة إلى التنوع في خصائص الأفراد واستعدادتهم ـ بعد بثهم من نفس واحدة وأسرة واحدة ـ على هذا المدى الواسع ، الذي لا يتماثل فيه فردان قط تمام التماثل ، على توالي العصور ، وفيما لا يحصى عدده من الأفراد في جميع الأجيال .. التنوع في الأشكال والسمات والملامح. والتنوع في الطباع والأمزجة والأخلاق والمشاعر. والتنوع في الاستعدادات والاهتمامات والوظائف .. إن نظرة إلى هذا التنوع المنبثق من ذلك التجمع لتشي بالقدرة المبدعة على غير مثال ، المدبرة عن علم وحكمة ، وتطلق القلب والعين يجولان في ذلك المتحف الحي العجيب ، يتمليان ذلك الحشد من النماذج التي لا تنفد ، والتي دائما تتجدد ، والتي لا يقدر عليها إلا الله ، ولا يجرؤ أحد على نسبتها لغير الله. فالإرادة التي لا حد لما تريد ، والتي تفعل ما تريد ، هي وحدها التي تملك هذا التنويع الذي لا ينتهي ، من ذلك الأصل الواحد الفريد!
والتأمل في (النَّاسُ) على هذا النحو كفيل بأن يمنح القلب زادا من الأنس والمتاع ، فوق زاد الإيمان والتقوى ..
وهو كسب فوق كسب ، وارتفاع بعد ارتفاع!
وفي ختام آية الافتتاح التي توحي بكل هذه الحشود من الخواطر ، يردّ (النَّاسُ) إلى تقوى الله ، الذي يسأل بعضهم بعضا به ، وإلى تقوى الأرحام التي يرجعون إليها جميعا :
(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) ..
واتقوا الله الذي تتعاهدون باسمه ، وتتعاقدون باسمه ، ويسأل بعضكم بعضا الوفاء باسمه ، ويحلف بعضكم لبعض باسمه .. اتقوه فيما بينكم من الوشائج والصلات والمعاملات.
.. وتقوى الله مفهومة ومعهودة لتكرارها في القرآن. أما تقوى الأرحام ، فهي تعبير عجيب. يلقي ظلاله الشعورية في النفس ، ثم لا يكاد الإنسان يجد ما يشرح به تلك الظلال! اتقوا الأرحام. أرهفوا مشاعركم للإحساس بوشائجها. والإحساس بحقها. وتوقي هضمها وظلمها ، والتحرج من خدشها ومسها .. توقوا أن تؤذوها ، وأن تجرحوها ، وأن تغضبوها .. أرهفوا حساسيتكم بها ، وتوقيركم لها ، وحنينكم إلى نداها وظلها.
ثم رقابة الله يختم بها الآية الموحية :
__________________
(١) يراجع بتوسع فصل «سلام البيت» في كتاب «السلام العالمي والإسلام» .. «دار الشروق».