ارتحل تركه (١).
«وكان للعرب ـ شأن كل أمة مشركة في كل زمان ومكان ـ آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب. فكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله فيتخذونهم شفعاء لهم عند الله ، ويعبدونهم ، ويتوسلون بهم عند الله. واتخذوا كذلك معه الجن شركاء لله ، وآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم ، وعبدوهم (٢). قال الكلبي : كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن (٣). وقال صاعد : كانت حمير تعد الشمس. وكنانة القمر. وتميم الدبران. ولخم وجذام المشتري. وطي سهيلا. وقيس الشعري العبور. وأسد عطاردا» (٤).
ويكفي أن يتصفح الإنسان هذه الصورة البدائية الغليظة من الوثنية ، ليعرف أي رجس كانت تنشره في القلوب والتصورات وفي واقع الحياة! ويدرك النقلة الضخمة التي نقلها الإسلام للقوم ، والطهارة التي أسبغها على تصوراتهم وعلى حياتهم سواء. ومن هذه الأرجاس تلك الأدواء الخلقية والاجتماعية ، التي كانت في الوقت ذاته من مفاخرهم في أشعارهم! ومن مفاخراتهم في أسواقهم! من الخمر إلى القمار إلى الثارات القبلية الصغيرة ، التي تشغل اهتماماتهم ، فلا ترتفع على تلك التصورات المحلية المحدودة :
«هانت عليهم الحرب وإراقة الدماء حتى كانت تثيرها حادثة ليست بذات خطر. فقد وقعت الحرب بين بكر وتغلب ابني وائل ، ومكثت أربعين سنة أريقت فيها دماء غزيرة ، وما ذاك إلا أن كليبا رئيس معد ، رمى ضرع ناقة البسوس بنت منقذ فاختلط دمها بلبنها ؛ وقتل جساس بن مرة كليبا ، واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب. وكان كما قال المهلهل أخو كليب : «قد فني الحياة ، وثكلت الأمهات ، ويتم الأولاد. دموع لا ترقأ ، وأجساد لا تدفن».
«وكذلك حرب داحس والغبراء. فما كان سببها إلا أن داحسا فرس قيس بن زهير ، كان سابقا في رهان بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر ، فعارضه أسدي بإيعاز من حذيفة ، فلطم وجهه وشغله ، ففاتته الخيل. وتلا ذلك قتل ، ثم أخذ بالثأر. ونصر القبائل لأبنائها ، وأسر ، ونزح للقبائل ، وقتل في ذلك ألوف من الناس» (٥).
وكان ذلك علامة فراغ الحياة من الاهتمامات الكبيرة ، التي تشغلهم عن تفريغ الطاقة في هذه الملابسات الصغيرة. إذ لم تكن لهم رسالة للحياة ، ولا فكرة للبشرية ، ولا دور للإنسانية ، يشغلهم عن هذا السفساف .. ولم تكن هناك عقيدة تطهرهم من هذه الأرجاس الاجتماعية الذميمة .. وماذا يكون الناس من غير عقيدة إلهية؟ ماذا تكون اهتماماتهم؟ وماذا تكون تصوراتهم؟ وماذا تكون أخلاقهم؟
إن الجاهلية هي الجاهلية. ولكل جاهلية أرجاسها وأدناسها. لا يهم موقعها من الزمان والمكان. فحيثما خلت قلوب الناس من عقيدة إلهية تحكم تصوراتهم ، ومن شريعة ـ منبثقة من هذه العقيدة ـ تحكم حياتهم ، فلن تكون إلا الجاهلية في صورة من صورها الكثيرة .. والجاهلية التي تتمرغ البشرية اليوم في وحلها ، لا تختلف في طبيعتها عن تلك الجاهلية العربية أو غيرها من الجاهليات التي عاصرتها في أنحاء الأرض ، حتى أنقذها منها الإسلام وطهرها وزكاها.
__________________
(١) كتاب الأصنام.
(٢) كتاب الأصنام.
(٣) المصدر السابق.
(٤) طبقات الأمم لصاعد.
(٥) كتاب : ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص ٣٤.