الجليل ، بإرسال رسول من عنده إلى بعض خلقه ، هي المنة التي لا تنبثق إلا من فيض الكرم الإلهي. المنة الخالصة التي لا يقابلها شيء من جانب البشر. وإلا فمن هم هؤلاء الناس ، ومن هم هؤلاء الخلق ، حتى يذكرهم الله هذا الذكر ، ويعنى بهم هذه العناية؟ ويبلغ من حفاوة الله بهم ، أن يرسل لهم رسولا من عنده ، يحدثهم بآياته ـ سبحانه ـ وكلماته ، لو لا أن كرم الله يفيض بلا حساب ، ويغمر خلائقه بلا سبب منهم ولا مقابل؟ وتتضاعف المنة بأن يكون هذا الرسول (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) .. لم يقل «منهم» فإن للتعبير القرآني (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ظلالا عميقة الإيحاء والدلالة .. إن الصلة بين المؤمنين والرسول هي صلة النفس بالنفس ، لا صلة الفرد بالجنس. فليست المسألة أنه واحد منهم وكفى. إنما هي أعمق من ذلك وأرقى. ثم إنهم بالإيمان يرتفعون إلى هذه الصلة بالرسول ، ويصلون إلى هذا الأفق من الكرامة على الله. فهو منة على المؤمنين .. فالمنة مضاعفة ، ممثلة في إرسال الرسول ، وفي وصل أنفسهم بنفس الرسول ، ونفس الرسول بأنفسهم على هذا النحو الحبيب.
ثم تتجلى هذه المنة العلوية في آثارها العملية .. في نفوسهم وحياتهم وتاريخهم الإنساني :
(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ، وَيُزَكِّيهِمْ ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) ..
تتجلى هذه المنة في أكبر مجاليها. في تكريم الله لهم. بإرسال رسول من عنده يخاطبهم بكلام الله الجليل :
(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) ..
ولو تأمل الإنسان هذه المنة وحدها لراعته وهزته حتى ما يتمالك أن ينصب قامته أمام الله ، حتى وهو يقف أمامه للشكر والصلاة!
ولو تأمل أن الله الجليل ـ سبحانه ـ يتكرم عليه ، فيخاطبه بكلماته. يخاطبه ليحدثه عن ذاته الجليلة وصفاته ؛ وليعرفه بحقيقة الألوهية وخصائصها. ثم يخاطبه ليحدثه عن شأنه هو ـ هو الإنسان ـ هو العبد الصغير الضئيل ـ وعن حياته ، وعن خوالجه ، وعن حركاته وسكناته. يخاطبه ليدعوه إلى ما يحييه ، وليرشده إلى ما يصلح قلبه وحاله ، ويهتف به إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
فهل هو إلا الكرم الفائض الذي يجري بهذه المنة ، وهذا التفضل ، وهذا العطاء؟
إن الله الجليل غني عن العالمين. وإن الإنسان الضئيل لهو الفقير المحووج .. ولكن الجليل هو الذي يحفل هذا الضئيل ، ويتلمسه بعنايته ، ويتابعه بدعوته! والغني هو الذي يخاطب الفقير ويدعوه ويكرر دعوته!
فيا للكرم! ويا للمنة! ويا للفضل والعطاء الذي لا كفاء له من الشكر والوفاء!
(وَيُزَكِّيهِمْ) ..
يطهرهم ويرفعهم وينقيهم. يطهر قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم. ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصلاتهم. ويطهر حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم .. يطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة والأسطورة ، وما تبثه في الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة مزرية بالإنسان وبمعنى إنسانيته .. ويطهرهم من دنس الحياة الجاهلية ، وما تلوث به المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم.
وقد كان لكل جاهلية من حولهم أرجاسها ، وكان للعرب جاهليتهم وأرجاسها.
من أرجاسها هذا الذي وصفه جعفر بن أبي طالب وهو يحدث نجاشي الحبشة في مواجهة رسولي قريش إليه ، وقد جاءا إليه ليسلمهما المهاجرين من المسلمين عنده .. يقول جعفر :
«أيها الملك. كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ،