١٥٢ ـ وتنازعوا فيما بينهم ، وخالفوا عن أمر رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ نبيهم وقائدهم .. وهنا يردهم السياق إلى صميم المعركة ومشاهدها ومواقفها وأحداثها وملابساتها ، في حيوية عجيبة :
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ ، إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ، وَعَصَيْتُمْ ـ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ : مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ. ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ. وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ ، وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ، فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ، لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ. وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ ، يَقُولُونَ : هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟ قُلْ : إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ. يَقُولُونَ : لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا. قُلْ : لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ. وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ. وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا. وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ. إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) ..
إن التعبير القرآني هنا ليرسم مشهدا كاملا لمسرح المعركة ، ولتداول النصر والهزيمة. مشهدا لا يترك حركة في الميدان ، ولا خاطرة في النفوس ، ولا سمة في الوجوه ، ولا خالجة في الضمائر ، إلا ويثبتها .. وكأن العبارات شريط مصور يمر بالبصر ، ويحمل في كل حركة صورا جديدة نابضة. وبخاصة حين يصور حركة الإصعاد في الجبل ، والهروب في دهش وذعر ، ودعاء الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ للفارين المرتدين عن المعركة ، المصعدين للهرب. يصحب ذلك كله حركة النفوس ، وما يدور فيها من خوالج وخواطر وانفعالات ومطامع .. ومع هذا الحشد من الصور الحية المتحركة النابضة ، تلك التوجيهات والتقريرات التي يتميز بها أسلوب القرآن ، ومنهج القرآن التربوي العجيب :
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) ..
وكان ذلك في مطالع المعركة ، حيث بدأ المسلمون يحسون المشركين ، أي يخمدون حسهم ، أو يستأصلون شأفتهم. قبل أن يلهيهم الطمع في الغنيمة. وكان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قد قال لهم : «لكم النصر ما صبرتم» فصدقهم الله وعده على لسان نبيه.
(حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ : مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) ..
وهو تقرير لحال الرماة. وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة ؛ ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلقة لأمر رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وانتهى الأمر إلى العصيان. بعد ما رأوا بأعينهم طلائع النصر الذي يحبونه. فكانوا فريقين : فريقا يريد غنيمة الدنيا ، وفريقا يريد ثواب الآخرة. وتوزعت القلوب فلم يعد الصف وحدة ، ولم يعد الهدف واحدا. وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتجرد الذي لا بد منه في معركة العقيدة. فمعركة العقيدة ليست ككل معركة. إنها معركة في الميدان ومعركة في الضمير. ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير. إنها معركة لله ، فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم له.
وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها ، فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها ؛ كي لا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية. ولقد يغلب المبطلون الذين يرفعون راية الباطل صريحة في بعض المعارك ـ لحكمة يعلمها الله ـ أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد ،