والاستشهاد. ويردهم إلى حقيقة البعث ، التي ينتهي إليها الناس .. ماتوا أو قتلوا .. وإلى أنهم مرجوعون إلى الله على كل حال :
١٤٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ .. بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ. سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ؛ وَمَأْواهُمُ النَّارُ ، وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ! وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ ، وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ، وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ : مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ، وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ ، وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ؛ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ، لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ ، وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً ، نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ، يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ ، يَقُولُونَ : هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟ قُلْ : إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ. يَقُولُونَ : لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا. قُلْ : لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ. وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ ، وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ ؛ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا ؛ وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا ، وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ ـ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى ـ : لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ، لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ. وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) ..
وحين ننظر في هذه المجموعة من الآيات نظرة فاحصة نجدها قد ضمت جوانحها على حشد ضخم من المشاهد الفائضة الحيوية ، ومن الحقائق الكبيرة الأصيلة في التصور الإسلامي ، وفي الحياة الإنسانية. وفي السنن الكونية .. نجدها تصور المعركة كلها بلمسات سريعة حية متحركة عميقة ، فلا تدع منها جانبا إلا سجلته تسجيلا يستجيش المشاعر والخواطر ؛ وهي بدون شك أشد حيوية وأشد استحضارا للمعركة بجوها وملابساتها ووقائعها ، وبكل الخلجات النفسية والحركات الشعورية لمصاحبة لها .. من كل تصوير آخر رود في روايات السيرة ـ على طولها وتشعبها ـ ثم نجدها تضم جوانحها على ذلك الحشد من الحقائق في صورتها الحية الفاعلة في النفوس ، البانية للتصور الصحيح.
وما من شك أن احتشاد هذه المشاهد كلها ، وهذه الحقائق كلها ، في هذا القدر من الألفاظ والعبارات ـ مع حيويتها وحركتها وإيحائها على هذا النحو ـ أمر غير معهود في التعبير البشري. يدرك ذلك من يدركون أسرار الأساليب ، وطاقات الأداء ، وبخاصة من يعالجون منهم التعبير ، ويعانون أسرار الأداء!
١٤٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) ..
لقد انتهز الكفار والمنافقون واليهود في المدينة ما أصاب المسلمين من الهزيمة والقتل والقرح ، ليثبطوا عزائمهم ، ويخوفوهم عاقبة السير مع محمد ، ويصوروا لهم مخاوف القتال ، وعواقب الاشتباك مع مشركي قريش وحلفائهم .. وجو الهزيمة هو أصلح الأجواء لبلبلة القلوب ، وخلخلة الصفوف ، وإشاعة عدم الثقة في القيادة ؛ والتشكيك في جدوى الإصرار على المعركة مع الأقوياء ؛ وتزيين الانسحاب منها ، ومسالمة المنتصرين فيها! مع إثارة المواجع الشخصية والآلام الفردية ؛ وتحويلها كلها لهدم كيان الجماعة ، ثم لهدم كيان العقيدة ، ثم للاستسلام