ومن ثم هذا الاستنكار ، وهذا التهديد ، وهذا البيان المنير :
(أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً. وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) ..
وفي التعبير تصوير حي للارتداد : (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) .. (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ). فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة ، كأنه منظر مشهود ، والمقصود أصلا ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة ، ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف : إن محمدا قد قتل ، فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين ، وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين ، وانتهى أمر الجهاد للمشركين! فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا ، فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب ، كارتدادهم في المعركة على الأعقاب! وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس ـ رضي الله عنه ـ فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم ، وقالوا له : إن محمدا قد مات : «فما تصنعون بالحياة من بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم».
(وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) ..
فإنما هو الخاسر ، الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق .. وانقلابه لن يضر الله شيئا. فالله غني عن الناس وعن إيمانهم. ولكنه ـ رحمة منه بالعباد ـ شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم ، ولخيرهم هم. وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله. وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق ، وتعوج الأمور كلها ، ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة ، وتستقيم في ظله النفوس ، وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها ، والسلام مع الكون الذي تعيش فيه.
(وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) ..
الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج ، فيشكرونها باتباع المنهج ، ويشكرونها بالثناء على الله ، ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيبا على شكرهم ، ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة ، وهو أكبر وأبقى ..
وكأنما أراد الله ـ سبحانه ـ بهذه الحادثة ، وبهذه الآية ، أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو حي بينهم. وأن يصلهم مباشرة بالنبع. النبع الذي لم يفجره محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولكن جاء فقط ليومئ إليه ، ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق ، كما أومأ إليه من قبله من الرسل ، ودعوا القافلة إلى الارتواء منه!
وكأنما أراد الله ـ سبحانه ـ أن يأخذ بأيديهم ، فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى. العروة التي لم يعقدها محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر ، ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون!
وكأنما أراد الله ـ سبحانه ـ أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة ، وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة ، وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط. حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة ، التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أو يقتل ، فهم إنما بايعوا الله. وهم أمام الله مسؤولون!
وكأنما كان الله ـ سبحانه ـ يعدّ الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى ـ حين تقع ـ وهو ـ سبحانه ـ يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم. فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب ، وأن يصلهم به هو ، وبدعوته الباقية ، قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول.