والأنداد التي يشدد القرآن في النهي عنها لتخلص عقيدة التوحيد نقية واضحة ، قد لا تكون آلهة تعبد مع الله على النحو الساذج الذي كان يزاوله المشركون. فقد تكون الأنداد في صور أخرى خفية. قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله في أي صورة ، وفي الخوف من غير الله في أي صورة. وفي الاعتقاد بنفع أو ضر في غير الله في أي صورة .. عن ابن عباس قال : «الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل. وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان وحياتي. ويقول : لو لا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ، ولو لا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت! وقول الرجل : لو لا الله وفلان .. هذا كله به شرك» ... وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ماشاء الله وشئت. قال : «أجعلتني لله ندا؟»!
هكذا كان سلف هذه الأمة ينظر إلى الشرك الخفي والأنداد مع الله .. فلننظر نحن أين نحن من هذه الحساسية المرهفة ، وأين نحن من حقيقة التوحيد الكبيرة!!!
* * *
٢٣ ـ ولقد كان اليهود يشككون في صحة رسالة النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وكان المنافقون يرتابون فيها ـ كما ارتاب المشركون وشككوا في مكة وغيرها ـ فهنا يتحدى القرآن الجميع. إذ كان الخطاب إلى «الناس» جميعا. يتحداهم بتجربة واقعية تفصل في الأمر بلا مماحكة :
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ..
ويبدأ هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال .. يصف الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بالعبودية لله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) .. ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات منوعة متكاملة : فهو أولا تشريف للنبي وتقريب بإضافة عبوديته لله تعالى ؛ دلالة على أن مقام العبودية لله هو أسمى مقام يدعى إليه بشر ويدعى به كذلك. وهو ثانيا تقرير لمعنى العبودية ، في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده ، واطراح الأنداد كلها من دونه. فها هو ذا النبي في مقام الوحي ـ وهو أعلى مقام ـ يدعى بالعبودية لله ، ويشرف بهذه النسبة في هذا المقام.
أما التحدي فمنظور فيه إلى مطلع السورة .. فهذا الكتاب المنزل مصوغ من تلك الحروف التي في أيديهم ، فإن كانوا يرتابون في تنزيله ، فدونهم فليأتوا بسورة من مثله ؛ وليدعوا من يشهد لهم بهذا ـ من دون الله ـ فالله قد شهد لعبده بالصدق في دعواه.
وهذا التحدي ظل قائما في حياة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وبعدها ، وما يزال قائما إلى يومنا هذا وهو حجة لا سبيل إلى المماحكة فيها .. وما يزال القرآن يتميز من كل كلام يقوله البشر تميزا واضحا قاطعا. ٢٤ ـ وسيظل كذلك أبدا. سيظل كذلك تصديقا لقول الله تعالى في الآية التالية :
(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ـ وَلَنْ تَفْعَلُوا ـ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ..
والتحدي هنا عجيب ، والجزم بعدم إمكانه أعجب ، ولو كان في الطاقة تكذيبه ما توانوا عنه لحظة. وما من شك أن تقرير القرآن الكريم أنهم لن يفعلوا ، وتحقق هذا كما قرره هو بذاته معجزة لا سبيل إلى المماراة فيها. ولقد كان المجال أمامهم مفتوحا ، فلو أنهم جاءوا بما ينقض هذا التقرير القاطع لانهارت حجية القرآن ولكن هذا لم يقع ولن يقع كذلك فالخطاب للناس جميعا ، ولو أنه كان في مواجهة جيل من أجيال الناس ..