ولما نشب القتال أبلى أبو دجانة الأنصاري بلاء حسنا. هو وطلحة بن عبيد الله ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، والنضر بن أنس ، وسعد بن الربيع ..
وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار ؛ حيث قتل من هؤلاء سبعون من صناديدهم. وانهزم أعداء الله وولوا مدبرين. حتى انتهوا إلى نسائهم. وحتى شمرت النساء ثيابهن عن أرجلهن هاربات!
فلما رأى الرماة هزيمة المشركين وانكشافهم ، تركوا مراكزهم التي أمرهم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ألا يبرحوها. وقالوا : يا قوم ، الغنيمة! الغنيمة! فذكرهم أميرهم عهد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فلم يسمعوا ، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة! فذهبوا في طلب الغنيمة ، وأخلوا الثغر في أحد!
عندئذ أدركها خالد ، فكّر في خيل المشركين ، فوجدوا الثغر خاليا فاحتلوه من خلف ظهور المسلمين. وأقبل المنهزمون من المشركين حين رأوا خالدا والفرسان قد علوا المسلمين ، فأحاطوا بهم!
وانقلبت المعركة ، فدارت الدائرة على المسلمين ، ووقع الهرج والمرج في الصف ، واستولى الاضطراب والذعر ، لهول المفاجأة التي لم يتوقعها أحد. وكثر القتل واستشهد من المسلمين من كتب الله له الشهادة ، وخلص المشركون إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقد أفرد إلا من نفر يعدون على الأصابع قاتلوا عنه حتى قتلوا. وقد جرح وجهه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وكسرت سنه الرباعية اليمنى في الفك الأسفل. وهشمت البيضة على رأسه. ورماه المشركون بالحجارة حتى وقع لجنبه ، وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق قد حفرها وغطاها! يكيد بها المسلمين. وغاصت حلقتان من حلق المغفر في وجنته.
وفي وسط هذا الهول المحيط بالمسلمين صاح صائح : أن محمدا قتل .. فكانت الطامة التي هدت ما بقي من قواهم ، فانقلبوا على أعقابهم مهزومين هزيمة منكرة لا يحاولون قتالا ، مما أصابهم من اليأس والكلال!
ولما انهزم الناس لم ينهزم أنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ وقد انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم! فقال : ما يجلسكم؟ فقالوا : قتل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : فما تصنعون بالحياة بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ثم استقبل المشركين ولقي سعد بن معاذ فقال : يا سعد واها لريح الجنة إني أجدها من دون أحد! فقاتل حتى قتل .. ووجد به بضع وسبعون ضربة. ولم تعرفه إلا أخته. عرفته ببنانه ..
وأقبل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ نحو المسلمين. وكان أول من عرفه تحت المغفر ، كعب بن مالك. فصاح بأعلى صوته : يا معشر المسلمين. أبشروا. هذا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأشار بيده : أن اسكت. واجتمع إليه المسلمون. ونهضوا معه إلى الشعب. وفيهم أبو بكر وعمر والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم .. فلما امتدوا صعودا في الجبل أدرك رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أبي بن خلف على جواد له اسمه العود. كان يطعمه في مكة ويقول : أقتل عليه محمدا. فلما سمع بذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : بل أنا أقتله إن شاء الله .. فلما أدركه تناول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ الحربة من الحارث وطعن بها عدو الله في ترقوته. فذهب يخور كالثور. وقد أيقن أنه مقتول. كما قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من قبل! ومات بالفعل في طريق عودته!
وأشرف أبو سفيان على الجبل فنادى : أفيكم محمد؟ فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لا تجيبوه. فقال : أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال : أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه. ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة. فقال : مخاطبا قومه : أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر ـ رضي الله عنه ـ نفسه