ولقد وقع ذلك كله بعد نزول هذه الآية. فما كانت معركة بين المسلمين وأهل الكتاب إلا كتب الله فيها للمسلمين النصر ـ ما حافظوا على دينهم واستمسكوا بعقيدتهم ، وأقاموا منهج الله في حياتهم ـ وكتب لأعدائهم المذلة والهوان إلا أن يعتصموا بذمة المسلمين أو أن يتخلى المسلمون عن دينهم.
ويكشف القرآن عن سبب هذا القدر المكتوب على يهود. فإذا هو سبب عام يمكن أن تنطبق آثاره على كل قوم ، مهما تكن دعواهم في الدين : إنه المعصية والاعتداء :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ ، وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ).
فالكفر بآيات الله ـ سواء بإنكارها أصلا ، أو عدم الاحتكام إليها وتنفيذها في واقع الحياة ـ وقتل الأنبياء بغير حق. وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس كما جاء في آية أخرى في السورة ـ والعصيان والاعتداء .. هذه هي المؤهلات لغضب الله ، وللهزيمة والذلة والمسكنة .. وهذه هي المؤهلات التي تتوافر اليوم في البقايا الشاردة في الأرض من ذراري المسلمين. الذين يسمون أنفسهم ـ بغير حق ـ مسلمين! هذه هي المؤهلات التي يتقدمون بها إلى ربهم اليوم ، فينالون عليها كل ما كتبه الله على اليهود من الهزيمة والذلة والمسكنة. فإذا قال أحد منهم : لما ذا نغلب في الأرض ونحن مسلمون؟ فلينظر قبل أن يقولها : ما هو الإسلام ، ومن هم المسلمون؟! ثم يقول!
١١٣ ـ وإنصافا للقلة الخيرة من أهل الكتاب ، يعود السياق عليهم بالاستثناء ، فيقرر أن أهل الكتاب ليسوا كلهم سواء. فهناك المؤمنون. يصور حالهم مع ربهم ، فإذا هي حال المؤمنين الصادقين. ويقرر جزاءهم عنده فإذا هو جزاء الصالحين.
(لَيْسُوا سَواءً. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ ، يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ. وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) ..
وهي صورة وضيئة للمؤمنين من أهل الكتاب. فقد آمنوا إيمانا صادقا عميقا ، وكاملا شاملا ، وانضموا للصف المسلم ، وقاموا على حراسة هذا الدين .. ١١٤ ـ آمنوا بالله واليوم الآخر .. وقد نهضوا بتكاليف الإيمان ، وحققوا سمة الأمة المسلمة التي انضموا إليها ـ خير أمة أخرجت للناس ـ فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر .. وقد رغبت نفوسهم في الخير جملة ، فجعلوه الهدف الذي يسابقون فيه ، فسارعوا في الخيرات ، ومن ثم هذه الشهادة العلوية لهم أنهم من الصالحين. ١١٥ ـ وهذا الوعد الصادق لهم أنهم لن يبخسوا حقا ، ولن يكفروا أجرا. مع الإشارة إلى أن الله ـ سبحانه ـ علم أنهم من المتقين ..
وهي صورة ترفع أمام الراغبين في هذه الشهادة ، وفي هذا الوعد ، ليحققها في ذات نفسه كل من يشتاق إلى نورها الوضيء في أفقها المنير.
١١٦ ـ هذا في جانب .. وفي الجانب الآخر ، الكافرون. الكافرون الذين لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم ؛ ولن تنفعهم نفقة ينفقونها في الدنيا ، ولن ينالهم شيء منها في الآخرة لأنها لم تتصل بخط الخير الثابت المستقيم. الخير المنبثق من الإيمان بالله ، على تصور واضح ، وهدف ثابت ، وطريق موصول. وإلا فالخير نزوة عارضة لا ثبات لها ، وجنوح يصرّفه الهوى ، ولا يرجع إلى أصل واضح مدرك مفهوم ، ولا إلى منهج كامل شامل مستقيم ..
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.)