وبمناسبة البذل والفداء يحبب للمسلمين أن ينفقوا مما يحبون من مال في هذه الدنيا ، ليجدوه عند الله مدخرا يوم القيامة : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) ..
وهكذا يستعرض هذا الشوط الواحد هذا الحشد من الحقائق والتوجيهات. وهو شوط في المعركة الضخمة التي تعرضها السورة ، دائرة بين الجماعة المسلمة وأعداء هذا الدين. من وراء القرون. وهي ذاتها المعركة الدائرة اليوم ، لا تختلف فيها الأهداف والغايات ، وإن اختلفت أشكال الوسائل والأدوات .. وهي هي في خطها الطويل المديد ..
فلننظر في النصوص ـ بعد هذا الإجمال ـ نظرة استيعاب وتفصيل :
* * *
٦٥ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ ، وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا ، وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً ، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ، وَهذَا النَّبِيُّ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ).
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي ـ مولى زيد بن ثابت ـ حدثني سعيد بن جبير ـ أو عكرمة ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فتنازعوا عنده. فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا. وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا. فأنزل الله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ ...) الآية.
وسواء كانت هذه هي مناسبة نزول الآية أو لم تكن ، فظاهر من نصها أنها نزلت ردا على ادعاءات لأهل الكتاب ، وحجاج مع النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أو مع بعضهم البعض في حضرة الرسول ـ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والهدف من هذه الادعاءات هو احتكار عهد الله مع إبراهيم ـ عليهالسلام ـ أن يجعل في بيته النبوة ؛ واحتكار الهداية والفضل كذلك. ثم ـ وهذا هو الأهم ـ تكذيب دعوى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه على دين إبراهيم ، وأن المسلمين هم ورثة الحنيفية الأولى ؛ وتشكيك المسلمين في هذه الحقيقة. أو بث الريبة في نفوس بعضهم على الأقل ..
ومن ثم يندد الله بهم هذا التنديد ؛ ويكشف مراءهم الذي لا يستند إلى دليل. فإبراهيم سابق على التوراة وسابق على الإنجيل. فكيف إذن يكون يهوديا؟ أو كيف إذن يكون نصرانيا؟ إنها دعوى مخالفة للعقل ، تبدو مخالفتها بمجرد النظرة الأولى إلى التاريخ :
(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟).
٦٦ ـ ثم يمضي في التنديد بهم ؛ وإسقاط قيمة ما يدلون به من حجج ، وكشف تعنتهم وقلة اعتمادهم على منهج منطقي سليم في الجدل والحوار :
(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ؟.)
وقد جادلوا في أمر عيسى عليهالسلام ؛ كما يبدو أنهم جادلوا في بعض الأحكام التشريعية حين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، ثم تولوا وهم معرضون .. وكان هذا وذاك في دائرة ما يعلمون من الأمر ، أما أن يجادلوا فيما هو سابق على وجودهم ، ووجود كتبهم ودياناتهم .. فهو الأمر الذي لا سند له ولو كان سندا