وكذلك .. نجدنا أمام حادث غير عادي. يحمل مظهرا من مظاهر طلاقة المشيئة الإلهية ، وعدم تقيدها بالمألوف للبشر ، الذي يحسبه البشر قانونا لا سبيل إلى إخلافه ؛ ومن ثم يشكون في كل حادث لا يجيء في حدود هذا القانون! فإذا لم يستطيعوا تكذيبه ، لأنه واقع ، صاغوا حوله الخرافات والأساطير!
فها هو ذا (زَكَرِيَّا) الشيخ الكبير وزوجه العاقر التي لم تلد في صباها .. ها هو ذا تجيش في قلبه الرغبة الفطرية العميقة في الخلف ـ وهو يرى بين يديه مريم البنية الصالحة المرزوقة ـ فيتوجه إلى ربه يناجيه ، ويطلب منه أن يهب له من لدنه ذرية طيبة :
(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ. قالَ : رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً. إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) ..
فما الذي كان من هذا الدعاء الخاشع الحار المنيب؟
٣٩ ـ كانت الاستجابة التي لا تتقيد بسن ، ولا تتقيد بمألوف الناس ؛ لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد :
(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ ـ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ ـ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى ، مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ. وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) ..
لقد استجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر ، الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء ؛ ويملك الإجابة حين يشاء. وبشرت الملائكة زكريا بمولود ذكر ، اسمه معروف قبل مولده ؛ «يحيى» ؛ وصفته معروفة كذلك : سيدا كريما ، وحصورا يحصر نفسه عن الشهوات ، ويملك زمام نزعاته من الانفلات. ومؤمنا مصدقا بكلمة تأتيه من الله (١). ونبيا صالحا في موكب الصالحين.
لقد استجيبت الدعوة ، ولم يحل دونها مألوف البشر الذي يحسبونه قانونا. ثم يحسبون أن مشيئة الله ـ سبحانه ـ مقيدة بهذا القانون! وكل ما يراه الإنسان ويحسبه قانونا لا يخرج عن أن يكون أمرا نسبيا ـ لا مطلقا ولا نهائيا ـ فما يملك الإنسان وهو محدود العمر والمعرفة ، وما يملك العقل وهو محكوم بطبيعة الإنسان هذه ، أن يصل إلى قانون نهائي ولا أن يدرك حقيقة مطلقة .. فما أجدر الإنسان أن يتأدب في جناب الله. وما أجدره أن يلتزم حدود طبيعته وحدود مجاله ، فلا يخبط في التيه بلا دليل ، وهو يتحدث عن الممكن والمستحيل ، وهو يضع لمشيئة الله المطلقة إطارا من تجاربه هو ومن مقرراته هو ومن علمه القليل!
٤٠ ـ ولقد كانت الاستجابة مفاجأة لزكريا نفسه ـ وهل زكريا إلا إنسان على كل حال ـ واشتاق أن يعرف من ربه كيف تقع هذه الخارقة بالقياس إلى مألوف البشر؟
(قالَ : رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ؟) ..
وجاءه الجواب .. جاءه في بساطة ويسر. يرد الأمر إلى نصابه. ويرده إلى حقيقته التي لا عسر في فهمها ، ولا غرابة في كونها :
(قالَ : كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) ..
كذلك! فالأمر مألوف مكرور معاد حين يرد إلى مشيئة الله وفعله الذي يتم دائما على هذا النحو ؛ ولكن الناس لا يتفكرون في الطريقة ، ولا يتدبرون الصنعة ، ولا يستحضرون الحقيقة!
__________________
(١) تذكر بعض التفاسير أن المقصود بتصديقه بكلمة من الله تصديقه بعيسى ـ عليهالسلام ـ وليس هناك ما يحتم هذا الفهم.