النجاح ؛ وإذا لم تستمتع تلك الخلية الأولى بالاستقرار. فالله الخبير البصير ، الذي يعلم من أمر الناس ما لا يعلمون ، لم يرد أن يجعل هذه الرابطة بين الجنسين قيدا وسجنا لا سبيل إلى الفكاك منه ، مهما اختنقت فيه الأنفاس ، ونبت فيه الشوك ، وغشاه الظلام. لقد أرادها مثابة وسكنا ؛ فإذا لم تتحقق هذه الغاية ـ بسبب ما هو واقع من أمر الفطر والطبائع ـ فأولى بهما أن يتفرقا ؛ وأن يحاولا هذه المحاولة مرة أخرى. وذلك بعد استنفاد جميع الوسائل لإنقاذ هذه المؤسسة الكريمة ؛ ومع إيجاد الضمانات التشريعية والشعورية كي لا يضار زوج ولا زوجة ، ولا رضيع ولا جنين.
وهذا هو النظام الرباني الذي يشرعه الله للإنسان ..
وحين يوازن الإنسان بين أسس هذا النظام الذي يريده الله للبشر ، والمجتمع النظيف المتوازن الذي يرف فيه السلام ، وبين ما كان قائما وقتها في الحياة البشرية ، يجد النقلة بعيدة بعيدة .. كذلك تحتفظ هذه النقلة بمكانها السامق الرفيع حين يقاس إليها حاضر البشرية اليوم في المجتمعات الجاهلية التي تزعم أنها تقدمية في الغرب وفي الشرق سواء ، ويحس مدى الكرامة والنظافة والسلام الذي أراده الله للبشر ، وهو يشرع لهم هذا المنهج. وترى المرأة ـ بصفة خاصة ـ مدى رعاية الله لها وكرامته .. حتى لأستيقن أنه ما من امرأة سوية تدرك هذه الرعاية الظاهرة في هذا المنهج إلا وينبثق في قلبها حب الله (١)!!!
* * *
٢٢١ ـ والآن نواجه النصوص القرآنية بالتفصيل : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ، وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ؛ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا. وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ. أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ. وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ؛ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ..
النكاح ـ وهو الزواج ـ أعمق وأقوى وأدوم رابطة تصل بين اثنين من بني الإنسان ؛ وتشمل أوسع الاستجابات التي يتبادلها فردان. فلا بد إذن من توحد القلوب ، والتقائها في عقدة لا تحل. ولكي تتوحد القلوب يجب أن يتوحد ما تنعقد عليه ، وما تتجه إليه. والعقيدة الدينية هي أعمق وأشمل ما يعمر النفوس ، ويؤثر فيها ، ويكيف مشاعرها ، ويحدد تأثراتها واستجاباتها ، ويعين طريقها في الحياة كلها. وإن كان الكثيرون يخدعهم أحيانا كمون العقيدة أو ركودها. فيتوهمون أنها شعور عارض يمكن الاستغناء عنه ببعض الفلسفات الفكرية ، أو بعض المذاهب الاجتماعية. وهذا وهم وقلة خبرة بحقيقة النفس الإنسانية ، ومقوماتها الحقيقية. وتجاهل لواقع هذه النفس وطبيعتها.
ولقد كانت النشأة الأولى للجماعة المسلمة في مكة لا تسمح في أول الأمر بالانفصال الاجتماعي الكامل الحاسم ، كالانفصال الشعوري الاعتقادي الذي تم في نفوس المسلمين. لأن الأوضاع الاجتماعية تحتاج إلى زمن وإلى تنظيمات متريثة. فلما أن أراد الله للجماعة المسلمة أن تستقل في المدينة ، وتتميز شخصيتها الاجتماعية كما تميزت شخصيتها الاعتقادية. بدأ التنظيم الجديد يأخذ طريقه ، ونزلت هذه الآية. نزلت تحرم إنشاء
__________________
(١) يراجع بتوسع : فصل «المساواة الإنسانية» في كتاب «العدالة الاجتماعية» للمؤلف. وفصل : «المشكلة الجنسية» في كتاب : «الإنسان بين المادية والإسلام». وفصل : «الإسلام والمرأة» في كتاب : «شبهات حول الإسلام» لمحمد قطب .. كما تراجع في الظلال سور : النساء. والأحزاب والطلاق بصفة خاصة. (دار الشروق)