بأمره ، وقتما يريد :
(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ. إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..
وامضوا في طريقكم التي اختارها الله لكم ، واعبدوا ربكم وادخروا عنده حسناتكم :
١١٠ ـ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ، وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ. إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ..
وهكذا .. يوقظ السياق القرآني وعي الجماعة المسلمة ويركزه على مصدر الخطر ، ومكمن الدسيسة ؛ ويعبىء مشاعر المسلمين تجاه النوايا السيئة والكيد اللئيم والحسد الذميم .. ثم يأخذهم بهذه الطاقة المعبأة المشحونة كلها إلى جناب الله ؛ ينتظرون أمره ، ويعلقون تصرفهم بإذنه .. وإلى أن يحين هذا الأمر يدعوهم إلى العفو والسماحة ، لينقذ قلوبهم من نتن الحقد والضغينة. ويدعها طيبة في انتظار الأمر من صاحب الأمر والمشيئة ..
* * *
١١١ ـ ثم يمضي في تفنيد دعاوى أهل الكتاب عامة : اليهود والنصارى ، وقولهم : إنهم هم المهتدون وحدهم! وإن الجنة وقف عليهم لا يدخلها سواهم! على حين يجبه كل فريق منهم الآخر بأنهم ليسوا على شيء! ويقرر في ثنايا عرض هذه الدعاوى العريضة حقيقة الأمر ، ويقول كلمة الفصل في العمل والجزاء :
(وَقالُوا : لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى. تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ. قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. بَلى! مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَقالَتِ الْيَهُودُ : لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ ، وَقالَتِ النَّصارى : لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ ـ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ ـ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ. فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ..
والذين كانوا يواجهون المسلمين في المدينة كانوا هم اليهود ؛ إذ لم تكن هناك كتلة من النصارى تقف مواقف اليهود. ولكن النص هنا عام يواجه مقولات هؤلاء وهؤلاء. ثم يجبه هؤلاء بهؤلاء! ويحكي رأي المشركين في الطائفتين جميعا!
(وَقالُوا : لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) ..
وهذه حكاية قوليهم مزدوجة. وإلا فقد كانت اليهود تقول : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ـ أي من يهود ـ وكانت النصارى تقول : لن يدخل الجنة إلا من كان من النصارى ..
وهذه القولة كتلك ، لا تستند إلى دليل ، سوى الادعاء العريض! ومن ثم يلقن الله رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يجبههم بالتحدي وأن يطالبهم بالدليل :
(قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ..
١١٢ ـ وهنا يقرر قاعدة من قواعد التصور الإسلامي في ترتيب الجزاء على العمل بلا محاباة لأمة ولا لطائفة ولا لفرد. إنما هو الإسلام والإحسان ، لا الاسم والعنوان :
(بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ، فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ..
ومن قبل قرر هذه القاعدة في العقاب ردا على قولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) .. فقال : (بَلى! مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ..
إنها قاعدة واحدة بطرفيها في العقوبة والمثوبة. طرفيها المتقابلين : (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) .. فهو حبيس هذه الخطيئة المحيطة ، في معزل عن كل شيء وعن كل شعور وعن كل وجهة إلا وجهة الخطيئة ..