يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ).
«يحفكم» : من مادة «إحفاء» ، أي : الإصرار والإلحاح في المطالبة والسؤال ، وهي في الأصل من حفأ ، وهو المشي حافياً ، وهذا التعبير كناية عن الأعمال التي يتابعها الإنسان إلى أبعد الحدود ؛ و «الأضغان» جمع ضغن ، وهو بمعنى الحقد الشديد.
وبذلك فإنّ الآية تريد أن توقظ أرواح البشر الغاطّة في نومها العميق بسوط التقريع والملامة والعتاب ، ليرفعوا عن أعناقهم قيود الذل والعبودية للأموال ، ويصبحوا في حال يضحّون عندها بكل ما لديهم في سبيل الله ، ويقدّمون ما عندهم بين يديه ، ولا يرجون في مقابل ما يعطون إلّاالإيمان به وتقواه ورضاه عنهم.
والآية الأخيرة ـ من الآيات مورد البحث ، وهي آخر آية من سورة محمّد ـ تأكيد آخر على ما مرّ في الآيات السابقة حول المسائل المادية وتعلّق الناس بها ، ومسألة الإنفاق في سبيل الله ، فتقول : (هَا أَنتُمْ هؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ).
وهنا يأتي سؤال ، وهو : إنّ الآيات السابقة قد ذكرت أنّ الله لا يسألكم أموالكم ، فكيف أمرت هذه الآية بالإنفاق في سبيل الله؟
غير أنّ تتمة الآية تجيب عن هذا السؤال عن طريقين ، فتقول أوّلاً : (وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ). لأنّ ثمرة الإنفاق تعود عليكم أنفسكم في الدنيا والآخرة ، حيث يقلّ التفاوت الطبقي ، وعندها سيعم الأمن والهدوء في المجتمع ، وتحل المحبة والصفاء محل العداوة والحقد ، هذا ثوابكم الدنيوي.
وأمّا في الآخرة ، فستمنحون مقابل كل درهم أو دينار تنفقونه الهبات والنعم العظيمة التي لم تخطر على قلب بشر ، وعلى هذا فإنّ من يبخل يبخل عن نفسه. وبتعبير آخر : فإنّ الإنفاق هنا يعني أكثر ما يعني الإنفاق في أمر الجهاد ، والتعبير ب (فِى سَبِيلِ اللهِ) يلائم هذا المعنى أيضاً ، ومن الواضح أنّ أي نوع من المساهمة في تقدّم أمر الجهاد سيضمن وجود المجتمع واستقلاله وشرفه.
والجواب الآخر هو : (وَاللهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ) فهو غني عن إنفاقكم في سبيله ، وغني عن طاعتكم ، وإنّما أنتم الفقراء إلى لطفه ورحمته وثوابه وكرمه في الدنيا والآخرة.
وتحذر الجملة الأخير جميع المسلمين أن اعرفوا قدر هذه النعمة الجليلة ، والموهبة العظيمة ، حيث جعلكم سبحانه حماة دينه القويم وأنصار دينه وأتباع رسوله وأصحابه ،