بفدك وبعضهم بخيبر ، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم ، فمرّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه (أي استأجروا إبله) وقال لهم : أمرّ بكم ما بين عَير واحد ، (فعلموا أنّهم أصابوا ضالّتهم) فقالوا له : إذا مررت بهما فآذنّا (أخبرنا) بهما ، فلمّا توسط بهم أرض المدينة ، قال : ذلك عَير ، وهذا احد ، فنزلوا عن ظهر إبله ، وقالوا له : قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك ، فاذهب حيث شئت. وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر : إنّا قد أصبنا الموضع فهلمّوا إلينا. فكتبوا إليهم إنّا قد استقرت بنا الدار واتّخذنا بها الأموال ، وما أقربنا منكم ، فإذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم ، واتخذوا بأرض المدينة أموالاً. فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تُبّعاً فغزاهم ، فتحصنوا منه ، فحاصرهم ثم أمنهم ، فنزلوا عليه. فقال لهم : إنّي قد استطبت بلادكم ، ولا أراني إلّامقيماً فيكم. فقالوا له : ليس ذلك لك ، إنّها مهاجر نبي ، وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك. فقال لهم : فإنّي مخلف فيكم من اسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره ، فخلف حين تراهم الأوس والخزرج. فلمّا كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود ، فكانت اليهود تقول لهم : أما لو بعث محمّد لنخرجنّكم من ديارنا وأموالنا. فلما بعث الله محمّداً صلىاللهعليهوآله آمنت الأنصار وكفرت به اليهود ، وهو قوله تعالى : (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى آخر الآية».
التّفسير
كفروا بما دعوا الناس اليه : هذه الآيات تتحدث أيضاً عن اليهود ومواقفهم ، هؤلاء هاجروا ليتخذوا من يثرب سكناً بعد أن وجدوا فيها ما يشير إلى أنّها أرض الرّسول المرتقب ، وبقوا فيها ينتظرون بفارغ الصبر النبي الذي بشّرت به التوراة ، كما كانوا ينتظرون الفتح والنصر على الذين كفروا تحت لواء هذا النبي ، لكنهم مع كل ذلك أعرضوا عن الرسول وعن الرسالة : (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).
وهكذا تستطيع الأهواء والمصالح الشخصية أن تقف بوجه طالب الحقيقة ، مهما كان الفرد عاشقاً لهذه الحقيقة وتوّاقاً للوصول إليها فيتركها ويعرض عنها ، بل تستطيع الأهواء أيضاً أن تحول هذا الفرد إلى عدو لدود لهذه الحقيقة.
ما أشد خسارة هؤلاء اليهود ، تركوا أوطانهم وهاموا في الأرض بحثاً عن علامات أرض الرسالة ، ثم ها هم خسروا كل شيء ، وباعوا أنفسهم بأسوأ ثمن : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أنفُسَهُمْ).