تتابع هذه الآية موضوع الحكم بين اليهود الذي تطرّقت إليه الآيتان السابقتان اللتان بيّنتا أنّ اليهود كانوا يأتون إلى النبي صلىاللهعليهوآله ويطلبون منه الحكم فيهم وقد أظهرت هذه الآية الأخيرة الإستغراب من حالة اليهود الذين كانوا مع وجود التّوراة بينهم واحتوائها على حكم الله ، يأتون إلى النبي محمّد صلىاللهعليهوآله ويطلبون منه الحكم فيهم بالرغم من وجود التوراة عندهم ، فتقول : (وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَيةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ).
والعجيب في أمر هؤلاء اليهود أنّهم حين كانوا يطلبون التحكيم من نبي الإسلام بينهم ، كانوا لا يقبلون بحكمه إذا كان مطابقاً لحكم التوراة لكنّه لم يوافق ميولهم ورغباتهم حيث تقول الآية : (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلِكَ). وما ذلك إلّالأنّ هؤلاء لم يكونوا بمؤمنين ، ولو كانوا مؤمنين لما استهزؤوا هكذا بأحكام الله ، حيث تؤكد الآية قائلة : (وَمَا أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ).
(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (٤٤)
إنّ هذه الآية والآية التي تليها تكملان البحث أو الموضوع الوارد في الآيات السابقة ، وتبين هذه الآية أهمية الكتاب السماوي الذي نزل على النبي موسى عليهالسلام أي التوراة ، حيث تشير إلى أنّ الله أنزل هذا الكتاب وفيه الهداية والنور اللذان يرشدان إلى الحق ، وأنّ النور والضياء الذي فيه هو لإزاحة ظلمات الجهل من العقول فتقول الآية : (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَيةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ).
ولذلك فإنّ الأنبياء الذين أطاعوا أمر الله ، والذين تولّوا مهامّهم بعد نزول التوراة كانوا يحكمون بين اليهود بأحكام هذا الكتاب ، تقول الآية الكريمة : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا).
كما أنّ علماء اليهود ووجاءهم ومفكّريهم المؤمنين الأتقياء ، كانوا يحكمون وفق هذا الكتاب السماوي الذي وصل أمانة بأيديهم وكانوا شهوداً عليه ، حيث تقول الآية :