إنّنا نعلم أنّ هذه الدنيا هي دنيا العلل والأسباب ، وأنّ الله قد دبّر أمر الخلق بحيث إنّ خلق كل كائن يتمّ ضمن سلسلة من العوامل ، فلِكي يولد إنسان قرّر الله أن يكون ذلك عن طريق الإتصال الجنسي ، ونفوذ الحيمن في البويضة ، لذلك حق لمريم أن تصيبها الدهشة وأن تتقدّم بسؤالها : كيف يمكن أن تحمل وتلد ويكون لها ولد بغير أن يكون لها أيّ اتصال جنسي مع أيّ بشر؟ (قَالَتْ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ).
فجاءتها الملائكة بأمر ربّها تخبرها بأنّ الله يخلق ما يشاء وكيفما يشاء ، فنظام الطبيعة هذا من خلق الله وهو يأتمر بأمره ، والله قادر على تغيير هذا النظام وقتمايشاء ، فيخلق وفق أسباب وعوامل اخرى غير عادية ما يشاء : (كَذلِكَ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ).
ثم لتوكيد هذا الأمر وإنهائه يقول : (إِذَا قَضَى أَمرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ).
إنّ تعبير «كن فيكون» إشارة إلى سرعة الخلق.
(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٤٩)
بعد أن ذكرت الآيات السابقة أربع صفات للمسيح عليهالسلام (وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد ، ومن الصالحين) شرعت هاتان الآيتان بذكر صفتين اخريين من صفات هذا النبي العظيم ، فالاولى تقول : (وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَيةَ وَالْإِنجِيلَ). ففي البداية تشير إلى تعليمه الحكمة والعلم بشكل عام ثم تبين مصداقين من مصاديق الكتاب والحكمة وهماالتوراة والإنجيل.
في الآية الاولى كان الكلام عن علم المسيح وكتبه السماوية وفي الآية الثانية إشارة إلى معجزاته العديدة ثم تبين الهدف من كل ذلك وهو هداية بني إسرائيل المنحرفين : (وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ).
ثم تضيف الآية : (أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم بَايَةٍ مِّن رَّبّكُمْ). وليست آية واحدة ، بل آيات عديدة.