قال القشيري :
يقال أوحى الله إلى داود عليهالسلام : كانت تلك الزلة مباركة عليك ، فقال : يا رب ؛ وكيف تكون
الزلة مباركة؟ فقال : كنت تجىء بأقدار المطيعين ، والآن تجىء بانكسار المذنبين ،
يا داود أنين المذنبين أحب إلىّ من صراخ العابدين. ه. مختصرا. وفى هذا اللفظ من
قوله : (يا جِبالُ أَوِّبِي
مَعَهُ) من الفخامة ما لا يخفى ، حيث جعلت الجبال بمنزلة العقلاء ؛
الذين إذا أمرهم بالطاعة أطاعوا ، وإذا دعاهم أجابوا ، إشعارا بأنه ما من حيوان
وجماد إلا وهو منقاد لقدرة الله تعالى ومشيئته. ولو قال : آتينا داود منا فضلا
تأويب الجبال معه والطير ؛ لم يكن فيه هذه الفخامة.
(وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ) أي : جعلناه له لينا ، كالطين المعجون ، يصرفه بيده كيف
يشاء ، من غير نار ولا ضرب بمطرقة ، قيل : سبب لينه له : أنه لما ملك بنى إسرائيل
، وكان من عادته أن يخرج متنكرا ، ويسأل كل من لقيه : ما يقول الناس فى داود؟
فيثنون خيرا ، فلقى ملكا فى صورة آدمي ، فسأله ، فقال : نعم الرجل ، لو لا خصلة
فيه : يأكل ويطعم عياله من بيت المال ، فتنبه ، وسأل الله تعالى أن يسبب له سببا
يغنيه عن بيت المال ، فألان له الحديد مثل الشمع ، وعلمه صنعة الدروع ، وهو أول من
اتخذها. وكانت قبل ذلك صفائح .
ويقال : كان يبيع
كل درع منها بأربعة آلاف ، فيأكل ويطعم عياله ، ويتصدق على الفقراء والمساكين.
وقيل : كان يلين له ولمن اشتغل معه له ، قلت : ذكر ابن حجر فى شرح الهمزية أن
نبينا صلىاللهعليهوسلم كان إذا وطئ على صخرة أثر فيها قدمه ، وهذا أبلغ من إلانة
الحديد ؛ لأن لين الحجارة لا يعرف بنار ، ولا بغيرها ، بخلاف الحديد. ه. وقيل : لأن
لين الحديد فى يد داود عليهالسلام لما أولى من شدة القوة.
وأمرناه (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) أي : دروعا واسعة تامة ، من : السبوغ ، بمعنى الإطالة ، (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) ؛ لا تجعل المسامير دقاقا فيقلق ، ولا غلاظا فتنكسر الحلق
، أو تؤذى لابسها. والتقدير : التوسط فى الشيء ، والسرد : صنعة الدروع ، ومنه قيل
لصانعه : السراد والزراد. (وَاعْمَلُوا صالِحاً) شكرا لما أسدى إليكم. والضمير لداود وأهله. والعمل الصالح
: ما يصلح للقبول ؛ لإخلاصه واتقائه ، (إِنِّي بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فأجازيكم عليه.
الإشارة
: الفضل الذي أوتيه
داود عليهالسلام هو كشف الحجاب بينه وبين الكون ، فلما شهد المكون ، كانت
الأكوان معه. «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان
معك». ولا يلزم من كونها معه فى المعنى ، بحيث تتعشق له وتهواه ، أي : تتقاد كلها
له فى الحس ، بل ينقاد إليه منها ما يحتاج إليه ، حسبما تقتضيه الحكمة ، وتسبق به
المشيئة ، فسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار. وقوله تعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) فى الظاهر : الحديد
__________________