يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) قياما ، وقعودا ، وعلى جنوبكم ، قال ابن عباس : (لم يعذر أحد فى ترك ذكر الله ـ عزوجل ـ إلا من غلب على عقله) (١). وقال : الذكر الكثير : ألّا تنساه أبدا. وروى أبو سعيد عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون» (٢).
والذكر أنواع : تهليل ، وتحميد ، وتقديس ، واستغفار ، وتلاوة ، وصلاة على النبي صلىاللهعليهوسلم. وقيل : المراد : ذكر القلوب ، فإن الذكر الذي يمكن استدامته ، هو ذكر القلب ، وهو استدامة الإيمان والتوحيد. وأمّا ذكر اللسان فإن إدامته كالمتعذر. قاله القشيري. (وَسَبِّحُوهُ) أي : نزّهوه ، أو : قولوا : سبحان الله وبحمده ، (بُكْرَةً) ؛ أول النهار (وَأَصِيلاً) ؛ آخر النهار. وخصّا بالذكر لأن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون فيهما. وعن قتادة : (قولوا : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله). أو : الفعلان ـ أي : (اذكروا) و (سبّحوه) ـ موجهان إلى البكرة والأصيل ، كقولك : صم وصل يوم الجمعة. والتسبيح من جملة الذكر ، وإنما اختص من بين أنواعه إبانة لفضله ؛ لأن معناه : تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات. ويجوز أن يراد بالذكر وإكثاره : تكثير الطاعات والعبادات ، فإنها من جملة الذكر ، ثم خصّ من الذكر التسبيح بكرة ، وهى صلاة الفجر ، وأصيلا ، وهى صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، أو : صلاة الفجر والعشاءين.
(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) ، لمّا كان من شأن المصلى أن ينعطف فى ركوعه وسجوده استعير لمن ينعطف على غيره ، حنوا عليه ، كحنو المرأة على ولدها. ثم كثر ، حتى استعمل فى الرحمة والترؤف ، ومنه قولهم : صلى الله عليك ، أي : ترحم عليك وترأف. فإن قلت : صلاة الله غير صلاة الملائكة ، فكيف اشتركا فى العطف؟ قلت : لاشتراكهما فى قدر مشترك ، وهو إرادة وصول الخير إليهم ، إلا أنه منه تعالى برحمته ، ومن الملائكة بالدعاء والاستغفار.
وذكر السدى : أن بنى إسرائيل قالت لموسى عليهالسلام : أيصلى ربنا؟ فكبر هذا الكلام على موسى عليهالسلام ، فأوحى الله إليه : أن قل لهم : إنى أصلى ، وإنّ صلاتى رحمتى ، وقد وسعت كل شىء (٣). وفى حديث المعراج : «قلت : إلهى ؛ لمّا لحقنى استيحاش قبل قدومى عليك ، سمعت مناديا ينادى بلغة ، تشبه لغة أبى بكر ، فقال : قف ، إن ربك
__________________
(١) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٧).
(٢) أخرجه أحمد فى المسند (٣ / ٦٨ ، ٧١) والحاكم (١ / ٤٩٩) وصححه ، من حديث سيدنا أبى سعيد الخدري رضي الله عنه.
(٣) عزاه فى الدر المنثور (٥ / ٣٨٩) لعبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، عن الحسن.