وفى رواية : لمّا رجع ـ عليه الصلاة والسلام ـ ودخل مغتسله ، جاءه جبريل بعمامة من إستبرق ، على بغلة ، عليها قطيفة من ديباج ، فقال : قد وضعت السّلاح ، والله ما وضعت الملائكة السلاح ، وما رجعت إلا من طلب القوم ، وإن الله يأمرك بالمسير إلى بنى قريظة. فأذّن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى الناس : أنّ من كان سامعا مطيعا فلا يصلّين العصر إلا فى بنى قريظة. فخرج إليهم ، فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : تنزلون على حكمى؟ فأبوا ، فقال : تنزلون على حكم سعد بن معاذ؟ فرضوا به. فقال سعد : نحكم فيهم : أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذراريهم ونساؤهم. فكبّر النبىّ صلىاللهعليهوسلم وقال : «لقد حكم فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة» (١).
ثم استنزلهم ، وخندق فى سوق المدينة خندقا ، وقدّمهم ، فضرب أعناقهم. وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة. وقيل : كانوا ستمائة مقاتل ، وسبعمائة أسير ، فقتل المقاتلة ، وقسم الأسارى ، وهم الذراري والنساء. وكان علىّ والزبير ـ رضى الله عنهما ـ يضربان أعناق بنى قريظة. والنبي صلىاللهعليهوسلم جالس هناك. والقصة مطولة فى كتب السير (٢).
(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) ؛ الخوف. وفيه السكون والضم ، (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) ، وهم الرجال (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) وهم النساء والذراري. قالت عائشة رضى الله عنهما : لم يقتل صلىاللهعليهوسلم من نساء بنى قريظة امرأة إلا واحدة ، قتلها بخلاد بن سويد ، كانت شدخت رأسه بحجر من فوق الحصن (٣).
(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) كالمواشى والنقود والأمتعة. روى أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار ، وقال لهم : «إنكم فى منازلكم». (وَ) أورثكم (أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) بعد ، قيل : خيبر ، ولم يكونوا نالوها ، أو : مكة ، أو : فارس والروم ، أو : كل أرض لم تفتح إلى يوم القيامة ، فمكّنهم الله من ذلك كله ، وفتح عليهم مشارق الأرض ومغاربها. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) ، فيقدر على جميع ذلك.
الإشارة : هذه عادة الله مع خواصه ، أن يخوفهم ثم يؤمنهم ، ويذلهم ثم يعزهم ، ويفقرهم ثم يغنيهم ، ويجعل دائرة السوء على من ناوأهم ، ويكفيهم أمرهم من غير محاربة ولا قتال ، (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ...) الآية. ثم يكون لهم التصرف فى الوجود بأسره ، أمرهم بأمر الله ، وحكمهم بحكمه ، والله غالب على أمره.
__________________
(١) أخرجه الطبري فى التفسير (٢١ / ١٥٣). وأخرجه البخاري ومسلم بلفظ : «لقد حكمت فيهم بحكم الملك» ، انظر صحيح البخاري (المغازي ، باب مرجع النبي صلىاللهعليهوسلم من الأحزاب. ح ٤١١١٧ ، ٤١١٩) ومسلم (الجهاد ، باب جواز قتال من نقض العهد ، ٣ / ١٣٨٨ ـ ١٣٨٩ ، ح ٦٤ ـ ٦٥ ـ ٦٦).
وقوله صلىاللهعليهوسلم : «أرقعة» يعنى سبع سموات. وكل سماء يقال لها : (رقيع). انظر النهاية (رقع). ولسان العرب (٣ / ١٧٠٥).
(٢) راجع السيرة لابن هشام (٣ / ٣٣٣ ـ ٣٤٣).
(٣) أخرجه الطبري (٢١ / ١٥٣ ـ ١٥٤).