(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) ؛ أعرض عن تدبرها متكبرا رافعا نفسه عن الإصغاء إلى القرآن ، (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) ؛ كأنه لم يسمعها ، ولا ذكرت على سمعه. شبّه حاله بحال من لم يسمعها قط ، (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) ؛ ثقلا وصمما ، (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ؛ أخبره بأن العذاب يوجعه لا محالة. وذكر البشارة على سبيل التهكم. وهذا فى مقابلة مدح المحسنين المقيمين المزكين. فكما قال فى المحسنين : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، قال فى هؤلاء : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ، بعد أن وصفهم بالضلال والإضلال ، فى مقابلة المحسنين بالهداية والفلاح. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لهو الحديث هو كل ما يشغل عن الله ، ويصد عن حضرة الله ، كائنا ما كان ، سواء كان غناء أو غيره ، وإذا كان الغناء يهيج لذكر الله ، ويحرك الروح إلى حضرة الله ، كان حقا ، وإذا كان يحرك إلى الهوى النفساني كان باطلا. والحاصل : أن السماع عند الصوفية ركن من أركان الطريقة ، بشروطه الثلاثة : الزمان والمكان والإخوان. وقد ألف الغزالي تأليفا فى تكفير من أطلق تحريم السماع. وقال فى الإحياء ، فى جملة من احتج به المحرّم للسماع : احتج بقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) ، وقد قال ابن مسعود والنخعي والحسن : إنه الغناء. وأجاب ما حاصله : أنه إنما يحرم إذا كان استبدالا بالدين ، وليس كل غناء بدلا عن الدين ، مشترى به ، ومضلا عن سبيل الله ، ولو قرأ القرآن ليضل عن سبيل الله كان حراما. كما حكى عن بعض المنافقين ؛ أنه كان يؤم الناس ولا يقرأ إلا بسورة عبس ، لما فيها من العتاب مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فهمّ عمر بقتله. فالإضلال بالشعر والغناء أولى بالتحريم. ه. وأما إن لم يكن شىء من ذلك ، فلا يحرم.
وقال فى القوت ، فى كتاب المحبة : ولم يزل الحجازيون ، عندنا بمكة ، يسمعون السماع فى أفضل أيام السنة ، وهى الأيام المعدودات ، التي أمر الله عزوجل عباده فيها بذكره ، أيام التشريق ، من وقت عطاء بن أبى رباح ، إلى وقتنا هذا ، ما أنكره عالم ، وكان لعطاء جاريتان تلحّنان ، فكان إخوانه يستمعون إليهما ، ولم يزل أهل المدينة مواطئين لأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا. وأدركنا أبا مروان القاضي ، له جوار يسمعن التلحين ، قد أعدهن للطوافين. فكان يجمعهن لهم ، ويأمرهن بالإنشاد ، وكان فاضلا. وسئل شيخنا أبو الحسن بن سالم ، فقيل له : إنك تنكر السماع ، وقد كان الجنيد وسرى السقطي وذو النون يسمعون؟ فقال : كيف أنكر السماع وقد أجازه وسمعه من هو خير منى. ه.
وقال ابن ليون التجيبى فى الإنالة : روى عن مصعب بن الزبير ، قال : حضرت مجلس مالك ، فسأله أبو مصعب عن السماع ، فقال : ما أدرى ، إلا أن أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك ، ولا يقعدون عنه ، ولا ينكره إلا غبى