قلت : «أىّ منقلب» : مفعول مطلق لينقلبون ، والأصل : ينقلبون أىّ انقلاب ، وليست «أيا» : مفعول «يعلم» ؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وجملة : «ينقلبون» : معلّق عنها العامل ، فهى فى محل نصب ؛ على قاعدة التعليق ، فإنه فى اللفظ دون المحل.
يقول الحق جل جلاله : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أي : أخبركم أيها المشركون (عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) ، ودخل حرف الجار على «من» الاستفهامية ؛ لأنها ليست للاستفهام بالأصالة. ثم أخبرهم ، فقال : (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ) : كثير الإفك ، وهو الكذب ، (أَثِيمٍ) ؛ كثير الإثم ، وهم الكهنة والمتنبئة ، كشق وسطيح ومسيلمة. وحيث كانت حالة رسول الله صلىاللهعليهوسلم منزهة أن يحوم حولها شىء من ذلك ، اتضح استحالة تنزلهم عليه صلىاللهعليهوسلم.
(يُلْقُونَ السَّمْعَ) وهم الشياطين ، كانوا ، قبل أن يحجبوا بالرجم ، يلقون أسماعهم إلى الملأ الأعلى ، فيختطفون بعض ما يتكلمون به ، مما اطلعوا عليه من الغيوب ، ثم يوحون به إلى أوليائهم. (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) فيما يوحون به إليهم ؛ لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا. وفى الحديث : «إنهم يخلطون مع ما سمعوا مائة كذبة» (١) ، فلذلك يخطئون ويصيبون ، وقيل : يلقون إلى أوليائهم السمع ، أي : المسموع من الملائكة. وقيل : الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين ، ثم يبلغون ما يسمعون منهم إلى الناس ، (وَأَكْثَرُهُمْ) أي : الأفّاكون (كاذِبُونَ) : مفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم. والأفّاك : الذي يكثر الإفك ، ولا يدلّ على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك ، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكيه عن الجنّة.
ولما ذكر الكهنة ذكر الشعراء وحالهم ؛ لينبه على بعد كلامهم من كلام القرآن ، فينتفى كونه كهانة وشعرا ، كما قيل فيه ، فقال : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) : مبتدأ وخبر ، أي : لا يتبعهم على باطلهم إلا الغاوون ، فإنهم يصغون إلى باطلهم وكذبهم ، وتمزيق الأعراض والقدح فى الأنساب ، ومدح من لا يستحق المدح ، وهجاء من لا يستحق الهجو ، ولا يستحسن ذلك منهم إلا (الْغاوُونَ) ، أي : السفهاء ، أو الضالون عن طريق الرشد ، الحائرون فيما يفعلون ويذرون ، لا يستمرون على وتيرة واحدة فيما يقولون ويفعلون ، بخلاف غيرهم من أهل الرشد ، المهتدون إلى طريق الحق ، الثابتين عليه.
__________________
(١) أخرجه البخاري فى (الطب ، باب الكهانة ، ح ٥٧٦٢) وفى (التوحيد ، باب قراءة الفاجر والمنافق ، ح ٧٥٦١) ، ومسلم فى (السلام ، باب تحريم الكهانة ، ٤ / ١٧٥٠ ، ح ٢٢٢٨) ، عن السيدة عائشة ، ولفظه : «... تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنىّ ، فيقرها فى أذن وليّه ، فيخلطون معها مائة كذبة».