إنذارهم. والتعبير عن ذلك بنفي الظالمية مع أن إهلاكهم قبل الإنذار ليس بظلم ؛ إذ لا يجب عليه تعالى شىء ـ كما تقرر من قاعدة أهل السنة ـ ؛ لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك ، وتحقيقا لكمال عدله. والله تعالى أعلم.
الإشارة : يقول الحق جل جلاله ، فى جانب أهل البطالة والغفلة : أفرأيت إن متعناهم سنين بالأموال والنساء والبنين ، فاشتغلوا بجمع الأموال والدثور ، وبناء الغرف وتشييد القصور ، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون من الموت ، والرحيل من الأوطان ، ومفارقة الأحباب والعشائر والإخوان ، أىّ شىء أغنى عنهم ما كانوا يتمتعون به ، من لذيذ المآكل والمشارب ، ومفاخر الملابس والمراكب ، هيهات هيهات ، قد انقطعت اللذات ، وفنيت الشهوات ، وما بقي إلا الحسرات ، فتأمل أيها العبد فيما مضى من عمرك ، فما بقي فى يدك منه إلا ما كان فى طاعة مولاك ، من ذكر ، أو تلاوة ، أو صلاة ، أو صيام ، أو علم نافع ، أو تعليم ، أو فكرة ، أو شهود ، وما سوى ذلك بطالة وخسران ، فالوقت الذي تصرفه فى طاعة مولاك ذخائره موجودة ، وكنوز مذخورة ، والوقت الذي تصرفه فى هوى نفسك ضائع ، تجد حسرته يوم القيامة ، ففى الحديث : «ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مضت لهم ، لم يذكروا الله تعالى فيها» (١) قال يحيى بن معاذ : أشد الناس عذابا يوم القيامة من اغتر بحياته والتذّ بمراداته ، وسكن إلى مألوفاته ، والله تعالى يقول : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ..). الآية. وعن ميمون بن مهران : أنه لقى الحسن فى الطواف ، وكان يتمنى لقاءه ، فقال له : عظنى ، فلم يزده على تلاوة هذه الآية ، فقال : لقد وعظت فأبلغت. وعن عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه : أنه كان يقرؤها عند جلوسه ليحكم بين الناس. ه. وبالله التوفيق.
ثم تمم قوله : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، بقوله :
(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣))
يقول الحق جل جلاله : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ) ؛ بالقرآن ، (الشَّياطِينُ) ، ردا لما يزعمه الكفرة من أنه من قبيل ما تلقيه الشياطين على الكهنة ، بعد تحقيق الحق فيه ، ببيان أنه نزل به الروح الأمين. (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) أي : وما يصح وما يستقيم لهم ذلك ، (وَما يَسْتَطِيعُونَ) إنزاله أصلا ، (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ) أي : عن استراقة السمع من الملائكة (لَمَعْزُولُونَ) ؛ لممنوعون بالشهب ، أو : لانتفاء المشاركة بينهم وبين الملائكة فى قبول الاستعداد ؛ لفيضان أنوار الحق ، والانتعاش بأنوار العلوم الربانية والمعارف القدسية ؛ لأن نفوس الشياطين خبيثة
__________________
(١) أخرجه البيهقي فى الشعب (٥١٣) عن معاذ بن جبل ، وعزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ٧٧٠١) للطبرانى والبيهقي عن معاذ ، وحسّنه.