أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) ، قال البيضاوي : المراد بالعذاب هنا غير المراد به فى سورتى البقرة والأعراف ؛ لأنه هناك مفسر بالتذبيح والقتل ، ومعطوف عليه هنا ، فهو هنا إما جنس العذاب ، أو استعبادهم واستعمالهم بالأعمال الشاقة. ه. (وَفِي ذلِكُمْ) الامتحان (بَلاءٌ) أي : ابتلاء (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) ؛ اختبركم به حتى أنقذكم منه ، ليعظم شكركم ، أو : فى ذلك الإنجاء بلاء ، أي : نعمة واختبار عظيم ، لينظر كيف تعملون فى شكر هذه النعمة.
ولذلك قال لهم موسى عليهالسلام : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) أي : آذن ، بمعنى أعلم ، كتوعّد وأوعد ، غير أنّ تأذن أبلغ من آذن ؛ لما فى تفعّل من التكلف والمبالغة ، أي : أعلمكم ، وقال : والله (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) يا بنى إسرائيل ما أنعمت به عليكم من الإنجاء وغيره ، بالإيمان والعمل الصالح ، وبالإقرار باللسان ، وإفراد النعمة للمنعم بالجنان ، (لَأَزِيدَنَّكُمْ) نعمة على نعمة. وهذا الخطاب ، وإن كان لبنى إسرائيل ، يعم جميع الخلق ، والزيادة إما من خير الدنيا ، أو ثواب الآخرة. وشكر الخواص يكون على السراء والضراء ؛ فتكون الزيادة فى الضراء ، إما فى الثواب أو فى التقريب. ثم ذكر ضده فقال : (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) ما أنعمت به عليكم ، وقابلتموه بالكفر والعصيان ، (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) ؛ فأعذبكم به على كفركم. قال البيضاوي : ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد. ه. فصرح بوصول الزيادة إليهم ، ولم يقل : أعذبكم عذابا شديدا ، بل عظم عذابه فى الجملة.
(وَقالَ مُوسى) ، فى شأن من لم يشكر : (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من الثقلين ، (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ) عن شكركم ، (حَمِيدٌ) : محمود على ألسنة خلقه ، من الملائكة وغيرهم. فكل ذرة من المخلوقات ناطقة بحمده ؛ حالا أو مقالا ، فهو غنى أيضا عن حمدكم ، فما ضررتم بالكفر إلا أنفسكم ؛ حيث حرمتموها مزيد الإنعام ، وعرضتموها لشديد الانتقام. وبالله التوفيق.
الإشارة : ذكر الحق تعالى فى هذه الآية مقامين من مقامات اليقين : الصبر والشكر ، ومدح من تخلق بهما واستعملهما فى محلهما ، فيركب أيهما توجه إليه منهما ، ويسير بهما إلى ربه. فالصبر عنوان الظفر ، وأجره لا ينحصر ، والشكر ضامن للزيادة ، قال بعض العارفين : (لم يضمن الحق تعالى الزيادة فى مقام من المقامات إلا الشكر) ، فدل أنه أفضل المقامات وأحسن الطاعات ، من حيث إنه متضمن للفرح بالله ، وموجب لمحبة الله. ولا شك أن مقام الشكر أعلى من مقام الصبر ؛ لأن الشاكر يرى المنن فى طى المحن ، فيتلقى المهالك بوجه ضاحك ؛ لأنه لا يكون شاكرا حقيقة حتى يشكر فى السراء والضراء ، ولا يشكر فى الضراء حتى يراها سراء ، باعتبار ما يواجه به فى حال الضراء من الفتوحات القلبية ، والمواهب اللدنية ، فتنقلب النقمة نعمة. بخلاف مقام الصبر ، صاحبه يتجرع مرارة الصبر ؛ لأنه لم يترق إلى شهود المبلى فى حال بلائه ، ولو ترقى إلى شهوده للذّت لديه البلايا ، كما قال صاحب العينية :
تلدّ لى الآلام ؛ إذ كنت مسقمى |
|
وإن تختبرني فهى عندى صنائع |