فقال : (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ) بكتابه ، ولم يخرجوا به من ظلمات كفرهم ، (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) ، والويل : كلمة عذاب تقال لمن استحق الهلاك ، أي : هلاك لهم من أجل عذاب شديد يلحقهم. وقيل : واد فى جهنم.
ثم ذكر وجه استحقاقهم العذاب بقوله : (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) ؛ يختارونها (عَلَى الْآخِرَةِ) ، فإنّ من أحب شيئا اختاره وطلبه ، (وَيَصُدُّونَ) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ؛ بتعويقهم عن الإيمان ، (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي : ويبغون لها زيغا ، ونكوبا عن الحق ، ليتوصلوا للقدح فيها ، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير ، (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي : فى تلف بعيد عن الحق ، بحيث ضلوا عن الحق ، وبعدوا عنه بمراحل. والبعد فى الحقيقة : للضال ، ووصف به فعله ؛ للمبالغة.
الإشارة : قد أخرج صلىاللهعليهوسلم أمته من ظلمات عديدة إلى أنوار متعددة ، أولها : ظلمة الكفر والشرك إلى نور الإيمان والإسلام ، ثم من ظلمة الجهل والتقليد إلى نور العلم والتحقيق ، ثم من ظلمة الذنوب والمعاصي إلى نور التوبة والاستقامة ، ثم من ظلمة الغفلة والبطالة إلى نور اليقظة والمجاهدة ، ثم من ظلمة الحظوظ والشهوات إلى نور الزهد والعفة ، ثم من ظلمة رؤية الأسباب ، والوقوف مع العوائد ، إلى نور شهود المسبب ، وخرق العوائد ، ثم من ظلمة الوقوف مع الكرامات وحلاوة الطاعات إلى نور شهود المعبود ، ثم من ظلمة الوقوف مع حس الأكوان الظاهرة إلى شهود أسرار المعاني الباطنة ، فيغيب عن الأكوان بشهود المكون. وهذا آخر ظلمة تبقى فى النفس ، فتصير حينئذ روحا ، وسرا من أسرار الله ، ويصير صاحبها روحانيا ربانيا عارفا بالله ، ولا يبقى حينئذ إلا الترقي فى شهود الأسرار أبدا سرمدا. وهذا محل القطبانية والتهيؤ للتربية النبوية ، ويصير وليا محمديا ، يخرج الناس من هذه الظلمات إلى هذه الأنوار.
وأما من لم يبلغ هذا المقام ، فإنما له الإخراج من أحد هذه الأشياء ؛ فالغزاة والمجاهدون يخرجون من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ، والعلماء يخرجون من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، والعباد والزهاد يخرجون من صحبهم من الذنوب إلى التوبة والاستقامة. وأما ما بقي من الظلمات فلا يخرج منها إلا الربانيون الروحانيون ، أهل التربية النبوية ، بإذن ربهم ، يدلهم على صراط العزيز الحميد ، الموصل إلى العز المديد. وويل لمن أنكر هؤلاء ، واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه ، واستحبّ حياة دنياه على أخراه ، أولئك فى ضلال عن حضرة الحق بعيد. وبالله التوفيق.
ولمّا كان الإخراج من هذه الظلمات لا يكون إلا بالمقال والحال ، بعث الله الرسل ، وورثتهم من الأولياء الداعين إلى الله بلسان قومهم ، كما قال تعالى :