(إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور ، من شئونه تعالى ، وأفعاله وأنعامه ، (لَآياتٍ) جليلة واضحة الدلالة على عظيم شأنه تعالى ، فى ذاته وصفاته وأفعاله ، وعلى صحة نبوة موسى وهارون ـ عليهماالسلام ، (لِأُولِي النُّهى) أي : العقول الصافية ، جمع «نهية» ، سمى بها العقل ، لنهيه عن اتباع الباطل ، وارتكاب القبيح ، أي : لذوى العقول الناهية عن الأباطيل ، التي من جملتها ما يدعيه الطاغية وما يقبله منه الفئة الباغية. وتخصيص كونها آيات لهم ، مع أنها آية للعالمين ؛ لأنهم المنتفعون بها.
(مِنْها خَلَقْناكُمْ) أي : من الأرض الممهدة لكم ، خلقناكم بخلق أبيكم آدم عليهالسلام ، وأنتم فى ضمنه ، إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه عليهالسلام ، بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس ، انطواء إجماليا ، فكان خلقه عليهالسلام منها خلقا لكل منها ، وقيل : خلقت أبدانكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض. وقال عطاء : إن الملك الموكل بالرحم ينطلق ، فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه العبد ، فيذره على النطفة ، فتخلق من التراب ومن النطفة. ه.
(وَفِيها نُعِيدُكُمْ) بالإماتة وتفريق الأجزاء ، والكلام على الأشباح دون الأرواح ، فإنها ، بعد السؤال ، تصعد إلى السماء ، كما يأتى عند قوله تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ...) (١) الآية. ولم يقل : وإليها نعيدكم ؛ إشارة إلى استقرار العبد فيها ، (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) بتأليف أجزائكم المتفتتة ، المختلطة بالتراب ، على الهيئة السابقة ، ورد الأرواح إليها. وكون هذا الإخراج تارة أخرى : باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها ، وإن لم يكن على التارة الثانية. والتارة فى الأصل : اسم للتور ، وهو الجريان ، فالتارة واحدة منه ، ثم أطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات المتحدة ، كما مر فى المرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ربنا الذي أعطى كل شىء خلقه ، مما سبق لهم فى أزله ، ثم هدى إلى الأسباب الموصلة إليه ، فمنهم من كان حظه فى الأزل قوت الأشباح ، هداه إلى أسبابها ، وهم أهل مقام البعد ، ومنهم من كان حظه قوت القلوب ، فهداه إلى أسبابها من المجاهدة فى الطاعات وأنواع القربات ، وهم أنواع :
فمنهم من شغلهم بتدريس العلوم وتدقيق الفهوم ، وتحرير المسائل وتمهيد النوازل ، وهداهم إلى أسباب ذلك ، وهم حملة الشريعة ، إن صحت نيتهم وثبت إخلاصهم. ومنهم من شغلهم بتوالي الطاعات وتعمير الأوقات ، وهداهم إلى أسبابها ، وقواهم على مشاقها ، وهم العباد والزهاد. ومنهم من شغلهم بإطعام الطعام والرفق بالأنام ، وتعمير الزوايا وقبول الهدايا ، وهداهم إلى أسباب عمارتها والقيام بها ، وهم الصالحون. ومنهم : من كان حظه قوت الأرواح ، وهم المريدون السائرون ، أهل الرياضة والتصفية ، والتخلية والتحلية ، والتهذيب والتدريب ، وهداهم إلى أسبابها ، ووصلهم
__________________
(١) الآية ٨٨ من سورة الواقعة.