(قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) أي : لست ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر ، وإنما أنا رسول من استعذت برحمانيته ؛ (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً) أي : لأكون سببا فى هبة الغلام ، أو : ليهب لك ربك غلاما ـ فى قراءة الياء ـ. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها ؛ لتشريفها وتسليتها ، والإشعار بعلية الحكم ؛ فإن هبة الغلام لها من أحكام تربيتها. وقوله : (زَكِيًّا) أي : طاهرا من العيوب صالحا ، أو تزكو أحواله وتنمو فى الخير ، من سن الطفولية إلى الكبر.
(قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) كما وصفت ، (وَ) الحال أنه (لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) بالنكاح ، (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) ؛ زانية فاجرة تبتغى الرجال؟ (قالَ) لها الملك : (كَذلِكِ) أي : الأمر كما قلت لك (قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي : هبة الغلام من غير أن يمسسك بشر هين سهل على قدرتنا ، وإن كان مستحيلا عادة ؛ لأنى لا أحتاج إلى الأسباب والوسائط ، بل أمرنا بين الكاف والنون ، (وَ) إنما فعلنا ذلك (لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) يستدلون به على كمال قدرتنا. والالتفات إلى نون العظمة ؛ لإظهار كمال الجلالة ، (وَ) لنجعله (رَحْمَةً) عظيمة كائنة (مِنَّا) عليهم ، ليهتدوا بهدايته ، ويرشدوا بإرشاده. (وَكانَ) ذلك (أَمْراً مَقْضِيًّا) فى الأزل ، قد تعلق به قضاء الله وقدره ، وسطّر فى اللوح المحفوظ ، فلا بدّ من جريانه عليك ، أو : كان أمرا حقيقا بأن يقضى ويفعل ؛ لتضمنه حكما بالغة وأسرارا عجيبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لا تظهر النتائج والأسرار إلا بعد الانتباذ عن الفجار ، وعن كل ما يشغل القلب عن التذكار ، أو عن الشهود والاستبصار ، فإذا اعتزل مكانا شرقيا ، أي : قريبا من شروق الأنوار والأسرار ، بحيث يكون قريبا من أهل الأنوار ، أو بإذنهم ، أرسل الله إليه روحا قدسيا ، وهو وارد ربانى تحيا به روحه وسره وقلبه وقالبه ، فيهب له علما لدنيا ، وسرا ربانيا ، يكون آية لمن بعده ، ورحمة لمن اقتدى به وتبعه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر حملها وولادتها وما كان من شأنها مع قومها ، فقال :
(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا