الإشارة : السياحة فى أقطار الأرض مطلوبة عند الصوفية فى بداية المريد ، أقلها سبع سنين ، وقال شيخ شيوخنا سيدى على الجمل رضي الله عنه : أقلها أربع عشرة سنة. وفيها فوائد ، منها : زيارة الإخوان ، والمذاكرة معهم ، وهى ركن فى الطريق ، ومنها : نفع عباد الله ، إن كان أهلا لتذكيرهم ، (فلأن يهدى الله به رجلا واحدا خير له مما طلعت عليه الشمس). ومنها : تأسيس باطنه وتشحيذ معرفته ، ففى كل يوم يلقى تجليا جديدا ، وتلوينا غريبا ، يحتاج معه إلى معرفة كبيرة وصبر جديد ، فالمريد كالماء ، إذا طال مكثه فى مكانه أنتن وتغيّر ، وإذا جرى عذب وصفي. ومنها : أنه قد يلقى فى سياحته من يربح منه ، أو يزيد به إلى ربه.
روى أن ذا القرنين بينما هو يسير فى سياحته إذ رفع إلى أمة صالحة ، يهدون بالحق وبه يعدلون ، يقسمون بالسوية ، ويحكمون بالعدل ، وقبورهم بأبواب بيوتهم ، وليست لبيوتهم أبواب ، وليس عليهم أمراء ، وليس بينهم قضاة ، ولا يختلفون ولا يتنازعون ، ولا يقتتلون ، ولا يضحكون ولا يحزنون ، ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس ، أطول الناس أعمارا ، وليس فيهم مسكين ولا فظ ولا غليظ ، فعجب منهم ، وقال : خبّرونى بأمركم ، فلم أر فى مشارق الأرض ومغاربها مثلكم ، فما بال قبوركم على أبواب بيوتكم؟ قالوا : لئلا ننسى الموت ؛ ليمنعنا ذلك من طلب الدنيا ، قال : فما بال بيوتكم لا أبواب لها؟ قالوا : ليس فيها متهم ، ولا فينا إلا أمين مؤتمن. قال : فما بالكم ليس فيكم حكّام؟ قالوا : لا نختصم ، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قالوا : لا نتكاثر. قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك؟ قالوا : لا نفتخر ، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا : من ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا ، قال : فما بال طريقتكم واحدة وكلمتكم مستقيمة؟ قالوا : من أجل أننا لا نتكاذب ، ولا نتخادع ، ولا يغتاب بعضنا بعضا. قال : أخبرونى من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم؟ قالوا : صلحت صدورنا فنزع منها الغل والحسد ، قال : فما بالكم ليس فيكم فقير ولا مسكين؟ قالوا : من قبل أنّا نقسم بيننا بالسوية. قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟ قالوا : من قبل الذلة والتواضع ، قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارا؟ قالوا : من قبل أنّا لا نتعاطى إلا الحق ونحكم بالسوية. قال : فما بالكم لا تضحكون؟ قالوا : لا نغفل عن الاستغفار. قال : فما بالكم لا تحزنون؟ قالوا : من قبل أنّا وطّنّا أنفسنا للبلاء. فقال : فما بالكم لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس؟ قالوا : لأنا لا نتوكل على غير الله ، قال : هل وجدتم آباءكم هكذا؟ قالوا : نعم ، وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم ، ويواسون فقراءهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويحسنون إلى من أساء إليهم ، ويحلمون عمن جهل عليهم ، ويصلون أرحامهم ، ويؤدون أمانتهم ، ويحفظون وقت صلاتهم ، ويوفون بعهدهم ، ويصدقون فى مواعدهم ، فأصلح الله تعالى بذلك أمرهم وحفظهم ، ما كانوا أحياء ، وكان حقا علينا أن نخلفهم فى تركتهم. فقال ذو القرنين : لو كنت مقيما لأقمت فيكم ، ولكن لم أومر بالمقام. ه. ذكره الثعلبي.