ثم ذكر ما يكون بعد فناء الدنيا التي تقدم مثالها من أهوال الحشر والحساب ، فقال :
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩))
قلت : (وَيَوْمَ) : معمول لمحذوف ، أي : واذكر ، أو عطف على قوله : «عند ربك» ، أي : والباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة ، و (حَشَرْناهُمْ) : عطف على (نُسَيِّرُ) ؛ للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المشركون ، وعليه يدور أمر الجزاء ، وكذا الكلام فيما عطف عليه ؛ منفيا وموجبا ، وقيل : هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ؛ ليعاينوا تلك الأهوال ، كأنه قيل : وحشرناهم قبل ذلك. و (نُغادِرْ) : نترك ، يقال : غادره وأغدره : إذا تركه ، ومنه : الغدير ؛ لما يتركه السيل فى الأرض من الماء ، و (صَفًّا) : حال ، أي : مصطفين.
يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكر (يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) أي : حين نقلعها من أماكنها ونسيرها فى الجو ، على هيئتها ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (١) أو : نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منثورا ، والمراد من ذكره : تحذير الغافلين مما فيه من الأهوال ، وقرئ : «تسيّر» ؛ بالبناء للمفعول ؛ جريا على سنن الكبرياء ، وإيذانا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل ؛ لظهور تعينه ، ثم قال : (وَتَرَى الْأَرْضَ) أي : جميع جوانبها ، والخطاب للرسول صلىاللهعليهوسلم ، أو لكل من يسمع ، (بارِزَةً) : ظاهرة ، ليس عليها جبل ولا غيره. بل تكون (قاعاً صَفْصَفاً ، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (٢). (وَحَشَرْناهُمْ) : جمعناهم إلى الموقف من كل حدب ، مؤمنين وكافرين ، (فَلَمْ نُغادِرْ) أي : لم نترك (مِنْهُمْ أَحَداً).
(وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ) ، شبهت حالتهم بحال جند عرض على السلطان ، ليأمر فيهم بما يأمر. وفى الالتفات إلى الغيبة ، وبناء الفعل للمفعول ، مع التعرض لعنوان الربوبية ، والإضافة إلى ضميره ـ عليه الصلاة والسلام ـ من
__________________
(١) الآية ٨٨ من سورة النمل.
(٢) الآيتان ١٠٧ ـ ١٠٨ من سورة طه.