قلت : والأظهر أنها الصلاة التي كانوا يصلونها قبل فرض الصلاة ، وهى ركعتان بالغداة والعشى. قال ابن عطية : ويدخل فى الآية من يدعو فى غير صلاة ، ومن يجمع لمذاكرة علم ، وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لذكر الله بالغداة والعشىّ أفضل من حطم السّيوف فى سبيل الله ، ومن إعطاء المال سحا» (١).
وقيل : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) فى جميع الأوقات ، وفى طرفى النهار ، والمراد بهم فقراء المؤمنين ؛ كعمار وصهيب وخباب وبلال ، روى أن رؤساء الكفرة من قريش قالوا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك ، وقالوا : إن ريح جبابهم تؤذينا ، فنزلت الآية (٢). روى أنه صلىاللهعليهوسلم لما نزلت خرج إليهم وجلس بينهم ، وقال : «الحمد لله الذي جعل فى أمتى من أمرت أن أصبر نفسى معه» (٣). وقيل : نزلت فى بيان أهل الصفّة ، وكانوا نحو سبعمائة ، فتكون الآية مدنية.
ثم وصفهم بالإخلاص ، فقال : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي : معرفة ذاته ، لا جنة ولا نجاة من نار ، (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) أي : لا تجاوزهم بنظرك إلى غيرهم ، من عداه : إذا جاوزه ، وفى الوجيز : ولا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوى الهيئات والزينة ، (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا.
(وَلا تُطِعْ) فى تنحية الفقراء عن مجلسك (مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) أي : جعلناه غافلا عن الذكر وعن الاستعداد له ، كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء عن مجلسك ، فإنهم غافلون عن ذكرنا ، على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء فى مجامع الأوقات ، وفيه تنبيه على أن الباعث على ذلك الدعاء غفلة قلبية عن جناب الله ـ سبحانه ـ حتى خفى عليه أن الشرف إنما هو بتحلية القلب بالفضائل ، لا بتحلية الجسد بالملابس والمآكل. (وَاتَّبَعَ هَواهُ) : ما تهواه نفسه ، (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) : ضياعا وهلاكا ، وهو من التفريط والتضييع ، أو من الإفراط والإسراف ، فإن الغفلة عن ذكر الله ـ تعالى ـ تؤدى إلى اتباع الهوى المؤدى إلى التجاوز والتباعد عن الحق والصواب. والله تعالى أعلم.
الإشارة : فى الآية حثّ على صحبة الفقراء والمكث معهم ، وفى صحبتهم أسرار كبيرة ومواهب غزيرة ، إذ بصحبتهم يكتسب الفقير آداب الطريق ، وبصحبتهم يقع التهذيب والتأديب ، حتى يتأهل لحضرة التقريب ،
__________________
(١) عزاه فى كنز العمال (١ / ٤٢٩ ح ١٨٥٠) لابن شاهين فى الترغيب فى الذكر عن ابن عمر. وأخرجه ، بدون العبارة الأخيرة ، الديلمي فى الفردوس (٣ / ٤٥٤ ح ٥٤٠٢) عن أنس .. وحطم السيوف ، أي : كسرها.
(٢) أخرجه البيهقي فى الشعب (باب فى الزهد وقصر الأمل) عن سلمان ، وزاد السيوطي عزوه فى الدر (٤ / ٣٩٦) لابن مردويه ، وأبى نعيم فى الحلية.
(٣) أخرجه الطبري (١٥ / ٢٣٥) عن قتادة ، وأخرجه البيهقي فى الموضع السابق ذكره ، ضمن الرواية ذاتها عن سلمان.