وصواب ، ولهذا المعنى ختم الشيخ القطب ابن مشيش تصليته المشهورة بما دعوا به ، حين أووا إلى كهف الإيواء ؛ تشبّها بهم فى مطلق الانقطاع والفرار من مواطن الحس. ولذلك لمّا تشبهوا بهم حفظهم الله ـ أي : الصوفية ـ ممن رام أذاهم ، وغيّبهم عن حس أنفسهم ، وأشهدهم عجائب لطفه وقدرته ، ومن تمام التشبه بهم : أنك قلّ أن تجد فرقة تسافر منهم إلا ويتبعهم كلب يكون معهم ، حتى شهدت ذلك فى جل أسفارنا مع الفقراء ؛ تحقيقا لكمال التشبيه. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر بعثهم من نومهم ، فقال :
(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠))
يقول الحق جل جلاله : (وَكَذلِكَ) أي : وكما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلاء والتحلل ، وكان ذلك آية دالة على كمال قدرتنا ، (بَعَثْناهُمْ) من النوم (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) أي : ليسأل بعضهم بعضا ، فيترتب عليه ما فصّل من الحكم البالغة ، أو : ليتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم ، فيزدادوا يقينا على كمال قدرة الله ، ويستبصروا أمر البعث ، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم.
(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) هو رئيسهم ، واسمه : «مكسليمنيا» : (كَمْ لَبِثْتُمْ) فى منامكم؟ لعله قال ذلك ؛ لما رأى من مخالفة حالهم ، لما هو المعتاد فى الجملة ، (قالُوا) أي : بعضهم : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ، قيل : إنما قالوا ذلك ؛ لأنهم دخلوا الكهف غدوة ، وكان انتباههم آخر النهار ، فقالوا : (لَبِثْنا يَوْماً) ، فلما رأوا أن الشمس لم تغرب بعد قالوا : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ، وكان ذلك إخبارا عن ظن غالب ، فلم يعزوا إلى الكذب.
(قالُوا) أي : بعض آخر منهم ، بما سنح له من الأدلة ، ولما رأى من طول أظافرهم وشعورهم : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) أي : أنتم لا تعلمون مدة لبثكم ، وإنما يعلمها الله ـ سبحانه ـ ، وهذا رد منهم على الأولين بأجمل ما يكون من حسن الأدب ، (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ) (١) (هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) ، أعرضوا عن البحث عن المدة ، وأقبلوا على
__________________
(١) قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر : بورقكم ـ ساكنة الراء ـ والباقون بكسرها. راجع الإتحاف ٢ / ٢١٢.