الإشارة : لا شىء أفسد على المريد من نقض عهود المشايخ ، والرجوع عن صحبتهم ؛ فإنه لمّا دخل فى حماهم انقبض عنه الشيطان والدنيا والهوى ، وأسفوا عليه ، فإذا رجع إليهم ، واتصلوا به ، فعلوا به مالم يفعلوا بغيره ؛ كمن هرب من عدوه ثم اتصل به. وتنسحب عليه الآية من قوله : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) إلى قوله : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) ؛ أي : البعد عن الحضرة ، (ولهم سوء الدار) وهو : غم الحجاب والبقاء من وراء الباب. فإذا رجعت إليه الدنيا يقال له : (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) ؛ فلا تغتر ولا تفرح بالعرض الفاني ، فما الحياة الدنيا فى الآخرة إلا متاع قليل ، ثم التحسر الوبيل.
ثم أجاب عمن طلب المعجزة ليؤمن ، فقال :
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧))
يقول الحق جل جلاله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) ظاهرة (مِنْ رَبِّهِ) كما أنزلت على من قبله فنؤمن حينئذ؟ (قُلْ) لهم : (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) بعد ظهور الآيات والمعجزات. وليس الإيمان والهداية بيد العبد فى الحقيقة. (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أي : من أقبل ورجع عن عناده من غير احتياج إلى معجزة. قال البيضاوي : وهو جواب ، يجرى مجرى التعجب من قولهم ، كأنه قال : قل لهم ما أعظم عنادكم! (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) ممن كان على صفتكم ، فلا سبيل إلى اهتدائه ، وإن نزلت كل آية ، ويهدى إليه من أناب لما جئت به ، بل بأدنى منه من الآيات. ه.
الإشارة : تقدم مرارا أن من سبقت له من الله عناية الخصوصية ، لم يتوقف على ظهور آية. ومن لم يسبق له شىء فى الخصوصية لا ينفع فيه ألف آية. فالله تعالى يضل من يشاء عن دخول حضرته ، ولو رأى من أولياء زمانه ما رأى ، ويهدى إلى حضرته من أناب ، ورجع بلا سبب. وبالله التوفيق.
ثم وصف أهل الإنابة ، فقال :
(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩))
قلت : الموصول : بدل ممن أناب ، أو خبر عن مضمر ، أي : هم. والموصول الثاني بدل ثان ، أو مبتدأ ، وجملة (طُوبى) : خبر ، وهى فعلى ، من الطيب ، كبشرى من البشارة ، قلبت ياؤها واوا ؛ لضم ما قبلها ، ومعناها : أصبت خيرا وطيبا. وقيل : شجرة فى الجنة. وسوغ الابتداء بها : ما فيها من معنى الدعاء.