الدنيا ، لم يحتجب الحق تعالى عنه فى الدارين طرفة عين. فتحصل أن الأشياء كلها تسبح من جهة معناها بلسان المقال ، ومن جهة حسها بلسان الحال ، وتسبيحها كما ذكرنا. ولا يذوق هذا إلا من صحب العارفين الكبار ، حتى يخرجوه عن دائرة حس الأكوان إلى شهود المكون. وحسب من لم يصحبهم التسليم ، كما قال القائل :
إذا لم تر الهلال فسلّم |
|
لأناس رأوه بالأبصار |
والله تعالى أعلم.
وسبب عدم فقه تسبيح الأشياء : غفلة القلوب ، وطبع الأكنّة عليها ، كما قال تعالى :
(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩))
قلت : (أَنْ يَفْقَهُوهُ) : مفعول من أجله ، أي : كراهة أن يفقهوه ، و (نُفُوراً) : مصدر فى موضع الحال. والضمير فى (بِهِ) : يعود على «ما» ، أي : نحن أعلم بالأمر الذي يستمعون به من الاستهزاء والسخرية.
يقول الحق جل جلاله : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) الناطق بالتنزيه والتسبيح ، ودعوتهم إلى العمل بما فيه ؛ من التوحيد ، ورفض الشرك ، وغير ذلك من الشرائع ، (جَعَلْنا) بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على دواعى الحكم الخفية (بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ، خصّ الآخرة بالذكر من بين سائر ما كفروا به ؛ دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به ، وتمهيدا لما سينقل عنهم من إنكار البعث ، أي : جعلنا بينك وبينهم (حِجاباً) يمنعهم عن فهمه والتدبر فيه ، (مَسْتُوراً) عن الحس ، خفيا ، معنويا ، وهو الران الذي يسبح على قلوبهم من الكفر ، والانهماك فى الغفلة. أو : ذا ستر ، كقوله : (وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) (١) ، أي : آتيا ، فهو ساتر لقلوبهم عن الفهم والتدبر.
__________________
(١) من الآية ٦١ من سورة مريم.