الإشارة : ضرب الله مثلا ؛ قلبا كان آمنا مطمئنا بالله ، تأتيه أرزاق العلوم والمواهب من كل مكان ، فكفر نعمة الشيخ ، وخرج من يده قبل كماله ، فأذاقه الله لباس الفقر بعد الغنى بالله ، والخوف من الخلق ، وفوات الرزق ، بعد اليقين ؛ بسبب ما صنع من سوء الأدب وإنكار الواسطة ، ولو خرج إلى من هو أعلى منه ؛ لأن من بان فضله عليك وجبت خدمته عليك ، ومن رزق من باب لزمه. وهذا أمر مجرب عند أهل الذوق بالعيان ، وليس الخبر كالعيان ، هذا إن كان أهلا للتربية ، مأذونا له فيها ، جامعا بين الحقيقة والشريعة ، وإلا انتقل عنه إلى من هو أهل لها. وبالله التوفيق.
ثم أمر بالشكر ، الذي هو قيد النعم ، فقال :
(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨))
قلت : (الْكَذِبَ) : مفعول بتقولوا ، و (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) : بدل منه ، أي : لا تقولوا الكذب ، وهو قولكم : (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) ، و (لِما) فى قوله : (لِما تَصِفُ) ؛ موصولة ، ويجوز أن ينتصب الكذب ب (تَصِفُ) ، ويكون «ما» مصدرية. ويكون قوله : (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) معمولا لتقولوا ، أي : لا تقولوا : هذا كذا وهذا كذا ؛ لأجل وصف ألسنتكم الكذب.
يقول الحق جل جلاله : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) ، أمرهم بأكل ما أحل لهم ، وشكر ما أنعم عليهم ، بعد ما زجرهم عن الكفر ، وهددهم عليه ، بما ذكر من التمثيل والعذاب الذي حل بهم ؛ صدا لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة. قاله البيضاوي. (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) ؛ لتدوم لكم (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فلا تنسبوا نعمه إلى غيره ، كشفاعة الأصنام وغيرها. (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، تقدم تفسيرها فى البقرة